“الهيئة الوطنية للنزاهة” والموقع المؤثر في الدينامية الوطنية لمكافحة الفساد! – حدث كم

“الهيئة الوطنية للنزاهة” والموقع المؤثر في الدينامية الوطنية لمكافحة الفساد!

تفعيلا لمقتضيات الدستور، صادق مجلس الحكومة خلال اجتماعه المنعقد يوم 26 يونيو 2014 على مشروع القانون المتعلق بالهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها المحدثة بمقتضى الفصل 36 من الدستور.

يتضمن هذا المشروع الذي يوجد قيد الدرس باللجنة المختصة بمجلس النواب 43 مادة تؤطر في مجملها صلاحيات الهيئة وأجهزتها التقريرية وإجراءات البحث والتحري عن أفعال الفساد المخولة لها وتنظيمها الإداري والمالي.

مساهمة في النقاش الدائر حول هذا المشروع، وتحقيقا للتطلع الذي يحدونا جميعا نحو إرساء هيئة وطنية للنزاهة تتوفر على مقومات الاشتغال المطلوبة في مجال الوقاية والمكافحة، نثير الانتباه إلى ضرورة تدارك بعض الهفوات التي شابت هذا المشروع على مستوى اختياراته التشريعية المعتمدة لتنزيل مقتضيات الدستور في الموضوع، نطرحها على بساط النقاش كالآتي:

1- إبقاء بعض أنواع الفساد خارج صلاحيات ومجال تدخل الهيئة الوطنية للنزاهة.

فقد حصرت المادة 4 من المشروع مفهوم الفساد المشمول بتدخل الهيئة في جرائم الرشوة واستغلال النفوذ والاختلاس والغدر المنصوص عليها حصريا في القانون الجنائي، الأمر الذي يُقصي قانونيا من نطاق تدخل الهيئة أصنافا أخرى من أفعال الفساد المجرمة بمقتضى نصوص تشريعية خاصة، كما هو الشأن بالنسبة لأفعال الفساد ذات الصلة بالمجال الإداري والسياسي والاقتصادي والتجاري والمالي.

وواضح أن هذا الاختيار الذي من شأنه أن يساهم في تكريس عدالة تشريعية تتأرجح فيها مبادئ المساواة أمام القانون وتتضاعف فيها فرص الإفلات من المتابعة والعقاب، لم يأخذ في الاعتبار الواقع التشخيصي لتفاعلات الفساد بالمجالات المذكورة كما رصدتها مختلف التقارير الوطنية وفي مقدمتها تقارير المحاكم المالية والهيئة المركزية للوقاية من الرشوة ومؤسسة الوسيط.

كما لم يتجاوب موضوعيا مع توجهات الاتفاقية الأممية لمكافحة الفساد التي، رغم تفاديها وضع تعريف للفساد، تبنت منظورا شموليا للوقاية والمكافحة تغطي مقتضياته، بالإضافة إلى أفعال الفساد المجرمة جنائيا، الأفعال ذات الصلة بممارسة الوظائف العمومية، والمهام السياسية، ونشاط القطاع الخاص.

وإذا كان المغرب بتصديقه على هذه الاتفاقية يُقر ضمنيا بوجاهة مفهوم التخليق الشامل كمقاربة دولية لتطويق الامتدادات الكمية والنوعية لإفرازات الفساد، فقد كان مفترضا أن يُترجَم هذا الإقرار إلى ملاءمة واضحة مع مقصود هذه الاتفاقية باعتماد مفهوم شامل للفساد المشمول بتدخل الهيئة يتجاوز البعد الجنائي لينفتح على الأبعاد الأخرى لتجليات الفساد.

من جهة أخرى، يطرح التعريف الضيق للفساد المشمول بتدخل الهيئة تناقضا واضحا مع مقتضيات المادة 17 التي خولت للهيئة صلاحية “تتبع ودراسة مختلف أشكال ومظاهر الفساد في القطاعين العام والخاص”؛ الأمر الذي يدفع إلى الاعتقاد بأن الهيئة مدعوة، على مستوى الوقاية، إلى أن تنفتح على المفهوم الواسع للفساد، ومطالبة، على مستوى التدخل الفوري، بأن تتقيد بمفهومه الضيق الذي حددته المادة 4.

وهذا وضع لا يستقيم في ظل المقاربات الحديثة التي تعتبر الوقاية والمكافحة آليتين متكاملتين تؤطران أي سياسة للتخليق ومحاربة الفساد، فضلا عن كونه يذكي الانطباع بوجود تساهل في متابعة بعض مظاهر الفساد.

لكل هذه الاعتبارات، تقتضي الموضوعية المرافعة من أجل توسيع مفهوم الفساد المشمول بتدخل الهيئة ليستوعب مجموع أفعال الفساد المنصوص عليها في القانون الجنائي وفي القوانين الأخرى وفي الاتفاقيات ذات الصلة، كمؤشر ملموس على رفض أي امتياز تشريعي يقوض مبدأ المساواة أمام القانون.

2- ضعف قدرات الهيئة ومحدودية آليات التفعيل المخولة لها والذي بدا واضحا في التفاعل الباهت للمشروع مع الاختصاصات الدستورية للهيئة في “المبادرة والتنسيق والإشراف وضمان تتبع تنفيذ سياسات محاربة الفساد”؛ وهي الاختصاصات التي يحتاج تفعيلها إلى تمكين الهيئة قانونيا من آليات ضامنة لانخراط سائر المعنيين في التكامل المؤسسي المطلوب لاضطلاع الهيئة بفعالية بصلاحياتها المذكورة.

فكما هو معلوم، يعتبر مبدأ تكامل وتناسق جهود مختلف الأجهزة المعنية بمكافحة الفساد، وتمتين علاقاتها المؤسسية على مستوى التعاون وتبادل الخبرات والمعلومات مطلبا حيويا لمواجهة مظاهر الفساد بمجهود مشترك تتضافر فيه جهود جميع المعنيين.

لكن هذا المطلب سيصطدم على مستوى المشروع بحاجز قانوني يتمثل في تقييد ممارسة الهيئة لصلاحياتها بشرط مراعاة “الاختصاصات الموكلة لسلطات أو هيئات أخرى بمقتضى نصوص تشريعية جاري بها العمل” وفق ما هو منصوص عليه ضمن مقتضيات المادة 3 من المشروع.

وكما هو معلوم، يعتبر مبدأ “مراعاة اختصاصات السلطات الأخرى” تقنيةَ تشريعية يُلجأ إليها لتفادي الوقوع في تنازع الاختصاصات بين سلطتين أو أكثر لهما نفس الاختصاص، الأمر الذي يقتضي، بالنسبة للسلطة المقيدة قانونيا بهذا المبدإ، إعمال أحد أمرين لا ثالث لهما، إما عدم الاضطلاع بتاتا بالمهمة موضوع الاختصاص المتعدد تحاشيا “لتهمة” التطاول على صلاحيات الآخرين، وإما المغامرة باقتحام الميدان شريطة الحصول على موافقة السلطات المعنية بالاختصاص.

وبما أن الاحتمال الأول أمر غير مستساغ في الممارسة الإدارية لكونه ينطوي على عبث يتنزه عنه العمل المؤسسي، فإن الذي يبقى واردا بحكم الواقع هو الاحتمال الثاني؛ وهذا يعني أن الهيئة المقبلة مطالبة بالحصول على ترخيص من طرف السلطات المعنية في حالة إقدامها على تفعيل الاختصاصات المشتركة معها، بما يستتبع ذلك من تكريس للسلطة التقديرية لمسؤولي هذه السلطات في الاستجابة أو عدم الاستجابة لطلبات الهيئة في هذا الشأن.

وواضح أن هذا الاختيار لا يتوافق مع مبدأ الاستقلالية الذي نص عليه الدستور بالنسبة لهذه الهيئة، والذي حسمت قراراتُ المحكمة الدستورية في امتداداته المختلفة خاصة على مستوى تموقع الهيئة الوطنية وعلاقاتها بباقي المتدخلين، بما لا يسمح بأي حال من الأحوال بإخضاع الهيئة في ممارسة صلاحياتها الدستورية لوصاية أو مصادقة أية جهة.

لذلك، واستحضارا لمطلب التكامل المؤسسي المنشود في هذا الورش الحيوي، كان من الأنسب اعتماد التقنية التشريعية المنصوص عليها بالنسبة لهيئات وطنية تتمتع بصلاحيات التصدي المباشر للمخالفات القانونية التي تهم مجالات تدخلها، كمجلس أخلاقيات القيم المنقولة والوكالة الوطنية لتقنين المواصلات وبريد المغرب، والتي يفيد منطوقها تكاثف وتضافر الجهود بين مأموري الهيئات المذكورة وضباط الشرطة القضائية، من خلال استعمال تعابير تشريعية من قبيل “علاوة على أو بالإضافة إلى ضباط الشرطة القضائية”.

لقد كان من آثار تغييب البعد التعاوني المطلوب مؤسسيا في مجال مكافحة الفساد إضعاف قدرات الهيئة المرتقبة نتيجة التذبذب في تصريف صلاحياتها الدستورية في المبادرة والإشراف والتنسيق وضمان تتبع التنفيذ، وهو ما برز جليا في غياب التنصيص القانوني على ما يلي:

– موافاة الهيئة بمآل توصياتها وآرائها وتبليغاتها، مع تعليل قرارات الحفظ التي قد تُتخذ من طرف النيابات العامة بشأن محاضر تحريات الهيئة المحالة عليها.

– تمكين الهيئة، كما يقر بذلك الدستور، من حق “المبادرة” تلقائيا بإبداء الرأي لسائر المعنيين حول مختلف المشاريع والمقترحات والبرامج والمبادرات ذات الصلة بمجال تدخلها وعدم تقييد هذا الحق بشرط الاستجابة لطلب هؤلاء المعنيين.

– تمكين الهيئة بشكل واضح من حق الحصول على الوثائق والمعلومات داخل الآجال التي تحددها، وعدم الاعتراض على عمليات التحري التي تقوم بها أو الاحتجاج بالسر المهني في مواجهتها.

– تمكين الهيئة من صلاحية التدخل الفوري للتحري عن أفعال الفساد التي تصل إلى علمها بشتى الوسائل وعدم تقييد هذا التدخل بشرط تلقي الشكايات في شأن الوقائع المعنية، لأن هذا من شأنه أن يُسَيِّج مفهوم “المبادرة” المخول للهيئة دستوريا، ويسد الباب أمام واجب تفاعلها الإيجابي مع ما يَردُ في مختلف المنابر من وقائع تستوجب تدخلها.

– تمكين الهيئة من ضمانات قانونية لمواجهة الحالات المحتملة لعدم التجاوب مع صلاحياتها من طرف الإدارات أو الأشخاص المعنيين بتحرياتها وكذا لمنع كل سلوك قد يعرقل اضطلاعها بمهامها.

– تخويل محاضر مقرري الهيئة الحجية القانونية المطلوبة على الأقل لضمان التوازن مع سلطات الملاءمة المخولة لقضاة النيابة العامة خاصة في ما يتعلق بحفظ القضايا.

– تمكين الهيئة من صلاحية القيام، بالتعاون مع بعض الهيئات والسلطات الأخرى، بتحريات مشتركة أو انفرادية، بما يسمح بتكثيف التعاون وضمان تناسق الأدوار بين مختلف الأجهزة والهيئات العاملة في مجال مكافحة الفساد.

إن عدم تمكين الهيئة المرتقبة من ضمانات الانخراط والتعاون الكفيلة بزرع الفاعلية المطلوبة في صلاحياتها الدستورية من شأنه أن يصيب آليات اشتغالها بشلل كبير قد تصبح معه هذه الهيئة عبارة عن هيكل مؤسساتي لمراكمة التوصيات والاستشارات والتبليغات دون امتلاك القدرة على تحويلها إلى مشاريع وأوراش قابلة للتفعيل أو قضايا فساد قادرة على أن تأخذ طريقها نحو ساحات الإدانة والعقاب.

ولا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يُوظَّف مبدأ النأي بالهيئة عن التطاول على صلاحيات السلطات الأخرى كذريعة لتجريدها من الآليات التي استعرضناها والتي تشكل سقفا لا غنى عنه لضمان نهوض الهيئة بفعالية بصلاحياتها الدستورية، لأن الآليات المذكورة إنما تتوخى تثبيت قيم التعاون وتكامل الجهود بين الهيئة الوطنية وباقي السلطات المعنية بمكافحة الفساد بعيدا عن أي انتهاك للمجالات المحفوظة لهذه السلطات أو أي تجاوز للحد الأدنى المخول لهيئات مشابهة على المستوى الوطني.

يدفعنا كل هذا إلى التأكيد على ضرورة التحلي باليقظة والوعي بأن مصير الهيئة المرتقبة بقدر ما سيتحدد بالصلاحيات التي ستُخوَّل لها تفعيلا لمقتضيات الدستور، بقدر ما يظل رهينا بما سيُمنح لها من ضمانات قانونية قادرة على إذكاء الدينامية المطلوبة في هذه الصلاحيات.

3- تعطيل البعد المجتمعي للهيئة في تراجع واضح عن مكتسب التجربة الحالية للهيئة المركزية للوقاية من الرشوة التي اشتغلت بامتداد مجتمعي عكسته التمثيلية المنفتحة لأعضائها على مختلف الهيئات الاجتماعية المعنية.

إن المشروع، باعتماده لجهاز تقريري بتمثيلية نوعية مكونة فقط من ذوي الكفاءات في الميدان، يفوت على الهيئة فرصة موضوعية للارتقاء بقضية محاربة الفساد إلى مستوى الانشغال الوطني من خلال تثبيت مبدإ مكافحته، ليس فقط بالاعتماد على خبرة تكنوقراطية لا تملك امتدادات مجتمعية، ولكن أيضا انطلاقا من الخبرة النابعة من هذا المجتمع والمتفاعلة معه.

لقد بدا واضحا أن المشروع في اعتماده لهذا الاختيار لم يستحضر معطى أساسيا أجمعت عليه العديد من التقارير مفاده أن مكافحة الفساد مسألة وطنية ومطلب عام تتحمل فيه، بنسب متفاوتة، جميع الجهات المعنية مسؤولية وواجب التصدي لهذه الآفة.

ولم تشذ الاتفاقية الأممية لمكافحة الفساد عن هذا التوجه العام حين حثت الدول الأطراف على اتخاذ تدابير مناسبة لتشجيع المجتمع المدني والمحلي والمنظمات غير الحكومية على المشاركة النشطة في منع الفساد ومحاربته، وإذكاء وعي الناس بوجود الفساد وأسبابه وجسامته وما يمثله من خطر.

كما لم ينتبه هذا المشروع لمعطى آخر لا يقل أهمية عن السابق مؤداه أن الاشتغال المؤسسي في مجال مكافحة الفساد بقاعدة مجتمعية متعددة ومنفتحة يشكل صمام أمان لقرارات وتوصيات المؤسسة، ويمثل خلفية صلبة وموضوعية لتحصين وحماية المسؤولية الرئاسية وتعزيز دعائم ممارستها على أساس التجرد والنزاهة والجرأة في مجال يحتاج إلى كل هذه المقومات لتحقيق أهدافه المنشودة بالفعالية المطلوبة.

إن أي استبعاد لفعاليات المجتمع من تشكيلة الهيئة المرتقبة من شأنه أن يحرم الهيئة من جبهة وطنية لا محيد عنها لمواجهة مظاهر الفساد بمسؤولية جماعية، كما أن أي تغييب لهذه الفعاليات من تركيبة الهيئة بدعوى مبدإ الاستقلالية من شأنه فقط أن يكرس نوعا من الاستقلالية عن المجتمع عوض العمل على التطبيق الأمثل لمبدإ الاستقلالية عن السلطات.

لقد كان حريا بهذا المشروع، تجاوبا مع المقاربة التشاركية المطلوبة خصوصا في هذا الورش الحيوي، تبني نموذج لممارسة جماعية منضبطة بقواعد الحكامة الجيدة تنهض على تمثيلية متنوعة ومتوازنة ومنفتحة على مختلف الفعاليات، لضمان تفاعل مختلف الأفكار والآراء التي من شأنها أن تمنحنا حلولا ملائمة تحظى بإجماع وطني وتجسد انخراط الجميع في مواجهة آفة الفساد.

كما كان أمرا وجيها تمكين الهيئة من إحداث أقطاب جهوية لضمان امتدادها الترابي وترسيخ بعدها الوطني، كوحدات تتوفر على صلاحيات لتفعيل اختصاصات الهيئة وفق اختيار يعتمد من جهة، البعد المجتمعي لتكريس الاختيار الوطني لمكافحة الفساد، ويؤطره من جهة ثانية، البعد الإداري للحفاظ على وحدة الرؤية والتصور المنبثقين عن الأجهزة التقريرية للهيئة.

إن العمل على تنزيل البعد المجتمعي للهيئة من شأنه أن يضمن للهيئة المرتقبة مقومات الاشتغال بعيدا عن “أي تأثير لا مسوغ له” على حد تعبير الاتفاقية الأممية لمكافحة الفساد، الأمر الذي يستدعي اتخاذ موقف حاسم بخصوص سؤال التمثيلية المتنوعة والمنفتحة كخيار وطني ومطلب موضوعي لا يمكن التغاضي عنه في سياسات الوقاية ومكافحة الفساد.

لا يفوتنا أن نشير في الأخير إلى أن الضمانات المذكورة لاضطلاع الهيئة المرتقبة بفعالية بصلاحياتها لن تجعل من هذه الأخيرة إطارا يعلو على هياكل البنيان المؤسساتي الوطني، بل هي ضمانات تبوئها مكانتها المناسبة داخل هذا البنيان كهيئة تتمتع بالحد الأدنى من قدرات تصريف الصلاحيات الأفقية المخولة لها بمقتضى الدستور، الأمر الذي يدفع إلى التأكيد على أن التجاوب الموضوعي معها سيشكل خطوة موضوعية لتفعيل تطلعنا المشترك نحو إرساء هيئة وطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة تحتل موقعا مؤثرا في الدينامية الوطنية لمكافحة الفساد.

 

* رئيس الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة

التعليقات مغلقة.