الاتحاد الاشتراكي.. استراتيجية التقدم إلى الخلف 2/1 – حدث كم

الاتحاد الاشتراكي.. استراتيجية التقدم إلى الخلف 2/1

 أنور المرتجي: عندما تَدافع مسؤولو حزب الاتحاد الاشتراكي إلى المشاركة في الحكومة الأخيرة ، أبانوا عن استرخاص فادح لموقع تشكيل الحكومة الجديدة، وكأن الأمر يتعلق بفرصة سانحة لاقتناص غنيمة المناصب الوزارية ليس إلا، ففي الجولة الأولى من الاتصالات الثنائية، لم يقدم رئيس الحكومة المكلف عرضا للحزب، بل إن مسؤولي الحزب هم من بادروا إلى تقديم طلبهم والإعراب عن رغبتهم في المشاركة الحكومية دون الرجوع إلى الأجهزة التقريرية، وكان موقفهم هو الاستثناء الوحيد ضمن الأحزاب المتفاوضة  الذين لم يتعللوا من باب الكياسة السياسية المحمودة، بذريعة أنهم سينقلون عرض رئيس الحكومة المكلف إلىالمجلس الوطني الاتحادي كما فعل أمناء الأحزاب الأخرى،لأن مسؤولي حزبنا كانوا في عجلة من أمرهم ،فقدموا شيكا على بياض ووضعوا العربة قبل الحصان، دون اشراك  القواعد التقريرية مثل المجلس الوطني الذي يمثل برلمان الحزب.

إن الانحياز إلى صفوف الأغلبية الحكومية أو التواجد في موقع المعارضة يجب التعاطي معهما كجبهتين نضاليتين متساويتين، فعند الانتقال من موقع إلى آخر، تعقبه وقفة تحليلية لتقديم الحصيلة بميزان الربح والخسارة والتساؤل سواء عند مزاولة الحزب للعمل الحكومي أو عند الانحياز إلى موقع المعارضة، عن نوعية الإضافة التي قدمها حزب “القوات الشعبية” حين مشاركته في الحكومات المتعاقبة، فعندما قرر مسؤولوالحزب استدعاء أعضاء المجلس الوطني للاجتماع، في المرة الأولى، نجدهم طوَحوا بمنضاليهم بعيدا،بمقر الحزب خالد الذكر بأكدال ، بدعوى حجة”التباعد” والوقاية من جائحة كورونا ، وفي المرة الثانية، عندما تلقوا إرساليات سلبية من التحالف الثلاثي،فأرادوا التقرب من أعضاء المجلس الوطني، بنقلهم إلى “نعيم “المقر المركزي بجادة العرعر الخاص بالمكتب السياسي

منذ بداية العشرية الاخيرة، جرت تحت الجسر مياه غزيرة، أصيب فيها حزب الاتحاد الاشتراكي بما يسميه المفكر المرحوم محمد سبيلا “بالضمور التاريخي” الشامل الذي يتجلى على المستوى السياسي والتنظيمي والثقافي، ففي مقالته بعنوان ( إشكالية اليسار والحداثة، إشكالية الاتحاد الاشتراكي في أبعادها الفكرية والثقافية والسياسية) المنشورة بجريدة الاتحاد الاشتراكي 24-2-2020)يتحدث المرحوم محمد سبيلا عن ضمور الحزب وتراجعه إلى القهقرى تنظيميا وسياسيا،فعلى مستوى التمثيلية البرلمانية نزل الحزب في انتخابات 2016  إلى أدنى المراتب القياسية، وبالكاد استطاع أن يؤلف فريقا برلمانيا باهتاوعليلا ، يتكون بمشقة عسيرة من 20 مقعدا،كمثال عن ممارسة تنظيمية تسعى  إلى افراغ الحزب وتحويله إلى مجرد جوقة كورال سياسي يكتفي بترديد مقولات جاهزة، في هذا الصدد،يتحدث المرحوم محمد سبيلا عنحزب الاتحاد الاشتراكي الشامخ، الذي كان في أوج عنفوانه يُنعت (بالظاهرة الاتحادية التي لم ولن تتكرر عربيا) لأن وجودها “تَخَلق من رحِم آلام المخاض والمعاناة والمكابدة” وكان في المؤتمر التأسيسي المنعقد بسينما الكواكب بالدار البيضاء، يمثل (ثورة ثقافية وسياسية متميزة) إذ وَهب للمغرب خير رجالته وأحسن أُطره، هم بُناة الدولة المغربية الحديثة  الذين عملوا بأسلاك الوظيفة العمومية، غداة مجيء الاستقلال، كما يعتبر نموذجا مثاليا للمجتمع السياسي القوي بجانب الدولة القومية القوية (ألهب – كما يقول سبيلا-  جيلنا والأجيال اللاحقة، وأطلق حيوية تاريخية استمرت وأزهرت خلال النصف الثاني من القرن العشرين والربع الأول من الألفية الثالثة) التحقت بصفوفه كوكبة عريضة من المثقفين المرموقين من أفضل المُتاح على مستوى العالم العربي، أمثال مفكر الحزب محمد عابد الجابري، وعبد الله العروي ومحمد جسوس وسالم يفوت وغيرهم.

لقد أصيب حزب الاتحاد الاشتراكي منذ المؤتمر التاسع بالتراخي السياسي والتنظيمي والثقافي، ودخل في سُبات شتوي طيلة فصول السنة الأربعة، أدى إلى غياب “الفاعل السياسي”و”النقد التحليلي” في الحزب والمجتمع ،ولقد تعددت  أسباب هذا التراجع إلى ضعف في البنية التنظيمية للحزب وفي شلل ممارسته  للديمقراطية الداخلية وعدم قدرته على اختلاق وإبداع خطاب تواصلي مُوَجه إلى الرأي العام ومناضلي الحزب ، ففي المؤتمر التاسع، كان الاعتزاز بإقرار الحزب لأليات تنظيمية جديدة مفتوحة على المنافسة الديمقراطية ، والمبارزة على اختيار مترشحين لقيادة الحزب، يعبر على أن نجاح هذا الأسلوب الديمقراطي يدل على حيوية الحزب في ظل التعدد والتنوع ،الذي ساد أشغال مؤتمر الحزب في  أجواء الوُد النضالية والشفافية الديمقراطية والتنافس النزيه،إذ قدم الحزب أربعة من المناضلين والمترشحين من العيار الثقيل (ولعلو، المالكي ،لشكر، الزايدي) للتباري على مشاريع البرامج الحزبية المتنافسة من أجل تحمل مسؤولية الكتابة الأولى للحزب، و لقد اعتُبر هذا التقليد النضالي البهي ،بمثابة تمرين متقدم في التعوُد على اختلاف وجهات النظر، وانتهت أشغال هذا العرس النضالي بفوز مستحق للأستاذ ادريس لشكر لمسؤولية  الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي، لكن بمجرد انتهاء أيام هذا الاحتفاء الديمقراطي قام  الكاتب الأول الجديد،بخطوة إلى الوراء غير مسبوقة في تاريخ الحزب ،وذلك بالقطيعة المطلقة مع التراث النضالي، وضد كل ما يُعتبر مفخرة للأقانيم والمبادئ التي تمثل جوهر وكينونة الاتحاد الاشتراكي، كحركة جماهيرية وتقدمية ديمقراطية  وحداثية، ومذ ذاك، بدأ العد العكسي،بإقفال الستارة على الديمقراطية الداخلية، وتجميد  الاختلاف و الاجتهاد الفكري ، كما تحول الحزب على مستوى حرية التعبير إلى أصل تجاري مكفول للكاتب الأول وحده،لا ينازعه فيه  أحد،فلا صوت يعلو على صوته  أو بمُستطاعه أن يعبر عن رأيه  المختلف، مهما كان موقعه في سُلم  الأجهزة الحزبية  المسؤولة ، والأنكى أن هذا الحزب في الوقت الذي كان في أمس الحاجة إلى جماهيره ومنضاليه والمناصرين له، في معاركه الانتخابية الكبرى،نجده يضحي بهم مجانا ،عندما قام الكاتب الأول الجديد،ولأول مرة، بالتنازل عن قطاع عريض من جماهير الحزب الحقيقية التي حضرت المؤتمر التاسع ،وذلك من خلال عمليات استئصال كاسحة، قريبة على مستوى التشبيه المجازي من نكبة البرامكة على يد الخليفة هارون الرشيد،وبإقصاء لثلاثة أرباع من مناضلي الحزب الذين يمثلون الألاف من قواعد وجماهير حزب الاتحاد الاشتراكي، هم من خيرة نخبه ومناضليه ،الذين شاركوا في انتخابات المترشحين الأربعة لموقع الكتابة الأولى، بأرضياتهم المرجعية ومشاريعهم الفكرية التي تعبر عن غنى التعدد وتنوع الاختلاف، لكن سيتم الاستغناء  المجاني عنهم وعن مساهماتهم الفكرية  وخبرتهم النضالية الوازنة، حيث لم يعد بإمكانهم أن تطأ أقدامهم مقر الحزب المركزي في جادة العرعر العامرة ، وسيتم تعويضهم بالربع الضامر الذي تبقى من الحزب، بدعوى التشبيب أحيانا وتجديد النخب مرة أخرى .

ولقد نتج عن هذا الإفقار الحزبي، ترسيخ لتقليد جديد، يستبدل خيرة أطر حزب القوات الشعبية عبر استيراد واستجلاب المناضلين الضامرين  من الأحزاب الإدارية ومن باعة أسواق شراء الذمم، التي أفضت إلى انتكاسة تنظيمية جعلت حزب الاتحاد الاشتراكي يختار أن ينزوي هامشيا  بالرغم من وجود حشوده الجماهيرية المعطلة الواسعة، وأن يصاب بالشلل المزمن وحالة جمود واضح ،جعله ينزل إلى أدنى المراتب القياسية في تاريخه النضالي على مستوى التمثيل البرلماني الذي وصل بالكاد وبمشقة عسيرة إلى التقاط أعضاء فريقه البرلماني المتواضع من بقايا الأحزاب الصغيرة . بعد أن تعرض الحزب لما أسميه بوهم  التطور إلى الأمام وسراب التقدم الذي يحسبه الظمآن ماء.

لقد صار”الضمور المُقَنَع” في المجال السياسي والتنظيمي هو الخط الناظم الذي يوَجه مسار “السردية الاتحادية” والخصيصة المميزة  منذ المؤتمر التاسع هي الضعف السياسي الذي أصاب حزب الاتحاد الاشتراكي، إننا ما زلنا نتعامل مع المشاركة في الحكومة كنزهة سياحية عابرة بدون مراقبة أو محاسبة من جهة الحزب للوزراء الحزبيين، وكمثال عن الضمور الحكومي تجدر الإشارة  إلى  أن مشاركتنا في الحكومة الأخيرة كانت بمثابة فضيحة كارثية عندما قام أحد الوزراء الاتحاديين بتقديم مشروع (قانون 20-22) المتعلق بتقنين وسائل التواصل الاجتماعي وشبكات البث المفتوح، والشبكات المماثلة ” لقد عبَرَت  الحكومة في ابانه وأحزاب الموالاة عن ارتباك عاجز في تدبير ومناقشة هذا القانون مع الفِرق البرلمانية،الذي يمس بالحريات العامة و”تكميم أقلام الصحفيين ” العاملين في وسائط التواصل، ويعاقب بأقسى أحكام القانون الجنائي في قضايا تتعلق بحرية التعبير ، لكن هذا المشروع-القانون بالرغم من تضمنه لبنود جيدة تتعلق بحماية القاصرين وذوي العاهات العقلية في المساس بسلامتهم النفسية والجسدية عبر شبكات التواصل الاجتماعي، فإن بعض مواده جاءت بعيدة عن المنطق وهي التي أثارت موجة غضب بين فئات المجتمع، لأن هذا القانون يتقاطع مع حرية الفكر والتعبير المضمونة للجميع بكل أشكالها، ويتناقض بذلك مع بعض المقتضيات الدستورية، وهذا ما يدعو إلى التساؤل عن الدواعي التي دفعت الوزير الاتحادي إلى العمل على محاولة  تمريره خِفية بطريقة ملتبسة وغامضة،مع العلم أن هذا الأمر عند اكتشافه أدى إلى جدل كبير في المجتمع بمختلف أطيافه فتم تأجيله بعد تخصيص لجنة وزارية لمدارسته وإحالته بعد ذلك على البرلمان للمصادقة النهائية، وحسب منتقديه يتعرض للسجن والغرامة أو إحدى العقوبتين من يستخدمون شبكات التواصل الاجتماعي وشبكات البث المفتوح “في الدعوة إلى مقاطعة منتوجات أو بضائع أو خدمات وطنية أو التحريض على ذلك، وكان المغرب فد شهد حملة مقاطعة بسبب غلاء الأسعار تضررت على إثرها بعض الشركات كان من أبرزها آنذاك شركات الغاز التي يديرها رئيس الحكومة الحالي عزيز أخنوش ورئيس حزب الأحرار، واعتُبر هذا التأجيل لمشروع القانون بمثابة سحب غير مباشر بعد افتضاح أمره من لدن جهات حزبية معادية ومنافسة لحزب الاتحاد الاشتراكي،كما أجمعت الصحافة على أنه ممنوع  تداوله تحت ضغط الرفض الشعبي.

لم يكن الانتقال إلى المؤتمر العاشر سلِسا، بل كانت تطبع أجواءه فوضى غير خلاقة لاستفراد الكاتب الأول بالقرارات السياسية والتنظيمية واستحواذه على الترشح الانفرادي لولاية ثانية بدون افساحه المجال للتنافس الحر كما وقع في المؤتمر التاسع مع بقية المتنافسين للتباري على رأس قيادة الحزب، وذلك في خرق صارخ لمبدإ التعددية التنظيمية دون اهتمام جدي بالتقرير الأدبي الذي لم يحصد موافقة المكتب السياسي مع إفقار للاختلاف الفكري الذي أدى إلى إقبار تباين وجهات النظر المختلفة، مما سيؤدي إلى انتكاسة سياسية وتنظيمية نتيجة لهيمنة  الصوت الواحد الذي يدبر شؤون الحزب، كما حدث مع موقف الكاتب الأول من حَراك الريف الذي اتَهَم مناضليه بالنزوع  الإنفصالي، وأن “شكوكا تحوم حول خلفيات و أهداف حراك الريف،”ولم يتراجع عن هذا الموقف الموالي للأغلبية الحكومية  إلا بعد أن صده المناضلون الاتحاديون في الكتابة الٌإقليمية لحزب الوردة بإقليم الحسيمة، الذين اعتبروا  أن تصريحات الكاتب الأول ادريس لشكر”حول حَراك الريف متناقضة تماما مع البيان الختامي للمؤتمرالوطني العاشر “كما طبع أشغال المؤتمرالعاشر  استعمال الكاتب الأول لسلطته المركزية عند  انتقائه  واختياره لقائمة أعضاء المكتب السياسي وكذلك لأعضاء المكتب الوطني،وتم إقصاء البعض من “المعارضين العشرة”  الذين حضروا  المؤتمر ثم قاطعوا أشغاله لأسباب أهمها الترشح الإنفرادي للكاتب الأول ادريس لشكر لولاية ثانية ، فباستثناء  اللحظة المضيئة العابرة حزبيا، التي تمثلت في انجاح العمل الوحدوي باندماج الحزب العمالي و الحزب الاشتراكي في البنية الحزبية من أجل اعادة توحيد وبناء الحزب الاشتراكي الكبير،فإن انفراط عِقد  الوحدة  أمام  النزيف التنظيمي الذي أصاب المؤتمرالتاسع ، من خلال استقطاب الدخلاء الجدد الذين في كل محطة انتخابية صار الحزب يستجلبهم لصفوفه على حساب مناضلي الاتحاد الحقيقيين.

ينبع

التعليقات مغلقة.