جريدة "الايام" و" ذلك الايام ": الخلق ينتظرون ، فالتفت ريان".. شكرا جزيلا ريان "المعجزة" | حدث كم

جريدة “الايام” و” ذلك الايام “: الخلق ينتظرون ، فالتفت ريان”.. شكرا جزيلا ريان “المعجزة”

نور الدين مفتاح: وقف الخلق ينظرون جميعا كيف يصنع المعجزةَ طفلٌ صغير فقير في غيابة جب عميق وضيق وبارد.

لماذا ريّان بالضبط؟ ولماذا هذه الحادثة بالضبط؟ ولماذا هذا البعث العظيم للكامن فينا؟ ولماذا فجأة تحولت أفئدة العالم إلى دوار إغران في جماعة تمروت في مدينة شفشاون في المملكة المغربية؟

لا فرق في هذا الحدث الجلل بين السؤال والجواب، لأن الكلمات بالفعل أصغر بكثير من أصوات الينابيع المتفجرة في الأفئدة عبر ربوع البلاد وفي عالمنا العربي وفي الأرجاء الأربعة للأرض.

فاسمحوا لي إن كنت مضطرا لهذه الثرثرة على ضفاف بهيّة بذاتها وتستحق أن تزف بالصمت الذهبي بدل الكلام، ولكن، هل يمكن للإنسان الذي اشترك مع ريّان الوطن والحلم أن يكتب في أيام الحداد هاته عن شيء غير ما جرى؟ هل بقي هناك حيز في الصدر يتسع لغير هذه الملحمة الإنسانية الملهمة، وهذا الدفق الفياض من التلاحم الوطني في لحظات خلنا فيها أننا لن نخرج من قعر الاندحار القيمي، والتفسخ الأخلاقي، وسطوة الجشع، وسلطان الأنانية، ووحشية الصراع من أجل الربح المادي، واستصغار الإنسان، ومهارة تشييد جدران التمييز الطبقي والفئوي، حتى صار جزء منا جالية مقيمة في بلده، وصار جزء من بلدنا بمثابة معازل مسيجة بالفقر والحرمان.

أَيْ بني ريّان، من ذلك القطر الضيق الذي كنت مكوما فيه على مسافة 32 مترا في الجب، منحتنا مرآة خرافية لنمقت كل ما كان يشغلنا عن فطرتنا وعن معدننا وعن سبب الوجود.

في تلك الأيّام الخمسة، حيث وقف الخلق ينظرون إلينا جميعا – كما قال الشاعر الكبير إبراهيم حافظ – وأنت تبني لنا مجداً لم نسع إليه ولن نتفاخر به.

كنا نريدك أنت فقط، كنا نريدك أيقونتنا، كنا نريد أن تخرج حيّا، لم نكن نطرح الأسئلة الموضوعية: هل يمكن لطفل لم يتجاوز الخامسة أن يبقى حيّا بعد سقوطه من علو شاهق، وبعد ارتطامه بعمق البئر حيث لا هواء ولا ضوء ولا ماء؟ كانت الأسئلة الموضوعية في لحظات اشتعال أطراف أحاسيسنا بمثابة الخيانة.

وبعد أن وصل الحفر هناك إلى درجة تحريك جبل، وصل الحفر في أعماقنا إلى درجة تحريك الحدود القصوى لإنسانيتنا، لم نعد نرضى بغير خروجك مبتسماً تماما كما رسمتك ريشة الفنانين وكما غنتك قصائد الشعراء في أكثر من مدينة وأكثر من بلد.

لم يعد العالم بعدما تماهى مع تضحياتك وأنت في وحشتك الكبرى يرضى بغير المعجزة.

ولهذا أقيمت الصلوات ورفعت الأكف ودقت الأجراس وارتفعت الابتهالات وتوجه العالم من أجلك إلى الخالق، من جميع الأديان، من أجل أن تخرج إلينا رسولا للحب والمودة والوئام.

هذه كلمات خفيفة على اللسان، ولكنها تعز في عالم أسكرته التطاحنات والقسوة والبغضاء. الجميع كان يريدك سفيراً للأصيل فيه والنقي فيه والمستقيم والمشرق فيه، ولكن، نحن نريد والله يفعل ما يريد.

وفي اللحظات التي كنا نعدّ فيها الأبطال ولا نحصيهم، ونجمع أطراف الانبهار والخوف ودفء التضامن وقشعريرة الاستيهامات عن برودة الجب وعن وحشته، جاء الخبر الذي رفعنا إلى السماء، بعدما أخرجوك! هل كنت حياً؟ لقد عانقنا لحظتها ما نريد لا ما يقع.

وبقدر ما ارتفعنا بقدر ما ارتطمنا بعد بلاغ الديوان الملكي الذي أعلن عن وفاة الحبيب، فانهمرت الدموع في الدوار والقرية وفي أرجاء المملكة، وتساوى الكبار والصغار والفقراء والأغنياء، وبَكت شعوب وقبائل، وصار اسم ريّان دارجا في بالي والمنامة وفي لندن وواشنطن، وفي الأمم المتحدة وهوليود وفي قلوب الملايير، ووالله لو جمعت دموع البشر في ذلك المساء الحزين لملأت سدودنا التي تئن اليوم تحت وطأة الجفاف.

واسمح لي صغيري ريّان أن أواصل هذه الثرثرة على شاهد قبرك البسيط وأنا أحكي عن أشياء بديهية عرفها الكل، ولكن، أريد بدوري أن أدون هذه الخوارق التي صنعتها وكأنك رسالة من السماء. لقد تكثفت فيك من الرموز في هذا العالم المغرور لدرجة أنك أجبرته على وضع فاصلة تأمل، ونقطة تواضع قبل الرجوع إلى السطر.

لقد جعلنا من الثورة التكنولوجية والتفوق العلمي دينا جديداً إلى أن جاء فيروس مجهري وأعادنا إلى ضعفنا الجميل، فقد بالغنا في الخيلاء.

وفي هذه البيئة من اللايقين الذي تعيشه البشرية، جاء هذا الطفل ليؤجج هذه الرغبة الجامحة في الاحتماء بطبيعتنا الأولى، والحسم النهائي في أن التقدم الذي قلب مصير البشرية قد يكون سبب فنائها إذا لم يرتبط بالأخلاق.

هذه الهوة السحيقة بين دول العالم، وبين شعوب العالم، هذا الصّدام بين الأديان والهويات والانتماءات قاتل. هذا الخلل الذي أصبح فيه الإنسان يقاس في ميزان ما يملك ولمن ينتمي، بدل أن يقاس ما نملك ولمن ننتمي في ميزان الإنسان، هو جائحة عصرنا الحقيقية، وريّان بكل صراحة، نفخ روحاً جديدة في خمسة أيام أحس بحفيفها كل البشر. هي نفحة إنسانية عطرة، قد لا تكون منعطفا حاسما، ولكنها شهادة وعبرة. إن الإنسان حي فينا وهو البدء وهو الانتماء والانتهاء.

بلدي متواضع الإمكانيات، ولكنه قوي الإرادة، شديد الإباء، متعدد الروافد، فخور بعراقته، ولكنه اليوم بهذا التضامن العالمي الهادر يجدد فخر الانتماء لأمازيغيته ومغاربيته وعربيته وإفريقيته، لكن يوقع على أولية الانتماء للإنسانية جمعاء.

ريّان منحنا عبركم في العالم وسام شرف صدق التآزر، وصفاء الوئام، ولهذا تجدنا نحمل ابتسامة الألم البهيج في انتظار الأجمل الذي يليق بالطفل المعجزة الذي ولد في تمروت ولن يموت أبداً.

لقد حمّلَنا الخلق جميعاً في هذا المغرب الأقصى مسؤولية ما كشفناه من أسرار وجداننا الدفينة، ورغم هذا العرس الذي يزف فيه الشهداء إلى ربهم، فلابد أن نصلح أعطابنا، وما أكثرها. لا يحتاج منّا أحد إلى تشخيص أو إلى دروس، فكل شيء معلوم، وفي صورة البئر، ووضعية الطفل، وعزلة الدوار، وفقر القرية، ومسحة الحزن التي تلف الجمال الباهر لوردة الريف، الشاون ما يعطى العبرة.

هذا الريف المعزول الذي لم تشتعل فيه بعد منارة المتوسط لابد له من ثورة في الإنسان. لقد تحركت في دواخلنا الجبال، فكيف لا نغير من أحوال ملايين المهمشين والمقصيين والخارجين عن دورة الحياة في المملكة الشريفة؟

وابتداء من اليوم، لا نريد نموذجا جديداً إلا نموذج ريّان للسياسات العمومية من أجل العالم القروي وأحواز المدن والطفولة المعذبة وضحايا الفوارق والإقصاء.

 لقد منحنا الصغير ريّان في المملكة ما لا يستطيعه جيش جرار من الديبلوماسيين وصناع القرار، فلنمنحه، وهو يراقبنا اليوم كطير من طيور الجنة، وعداً بأننا سنكون أوفياء لذكراه ولدروسه، وأننا سنستحضر إنسانيتنا في تدبير شؤوننا العامة من أجل أجيال نعلم اليوم أن بإمكاننا أن نترك لها أعلام الرفعة والسؤدد إذا نحن استثمرنا في كرامة المغربية والمغربي.

دمت بيننا ريّان ذكرى وضميرا حيّاً.. وإلى لقاء جميل بإذن الله.

التعليقات مغلقة.