+ زهير داودي: على ضوء التطورات الحالية التي أفرزتها العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، تلوح في الأفق بوادر حرب جديدة تختلف من ناحية الوسائل، ولكنها تحتفظ بمميزاتها ألا وهي “الحرب العالمية الباردة الثالثة”.
نعم هي “حرب باردة عالمية ثالثة” وليست ثانية، فالأولى انطلقت مع نهاية الحرب العالمية الثانية واستمرت إلى حين سقوط جدار برلين، والثانية بدأت رحاها نهاية التسعينيات من القرن الماضي إلى غاية سنة 2014 على وجه التحديد، لتبدأ حرب عالمية باردة ثالثة بشكلها الإقتصادي والمالي ثم التكنولوجي، وبعد ذلك بشكلها الحالي الجيوستراتيجي من خلال إعادة صياغة التموقعات والتكتلات ورسم الحدود الجغرافية والإقتصادية والتكنولوجية.
أولى الشرارات كانت مع التقدم الملحوظ لدى الصين وبعض الدول التي كانت تصنف بالمعايير الدولية “متخلفة” أو “في طريق النمو” كتركيا والبرازيل، حيث كسرت هذه الدول هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا على قطاعات حساسة كالصناعات الحربية والكيميائية والتكنولوجية. وعلينا أن نؤكد أن الصناعة التكنولوجية التي كانت حكرا على الشركات الأمريكية بشكل كبير، أصبحت دول مثل الصين وكوريا الجنوبية تمتلك فيها قدرة تنافسية قوية وشرسة ولا سيما في الشق المتعلق بالإتصالات من الجيلين الخامس والسادس.
تطور الأمور أخذ منحى آخر مع بروز ما يسمى بحرب “التجسس السيبراني” حيث تفوقت شركات ومختبرات من روسيا والصين وكوريا الشمالية وتركيا على نظيراتها الغربية، واخترقت مجالات حساسة، واستأثرت بمعلومات مهمة مكنتها من بلوغ مكانة أكثر استراتيجية على المستوى الدولي.
لا شك أن عدم تجديد النخب السياسية خاصة في الدول الغربية، جعل هرم السلطة تحت يد شذاذ الآفاق وقاصري الرؤية، ولنا في دونالد ترامب، توني بلير، بوريس جونسون، إيمانويل ماكرون، فرانسوا هولاند، نيكولا ساركوزي، بيدرو سانشيز، ماريانو راخوي وغيرهم نماذج لهؤلاء الحكام الجدد للغرب. هي فرصة مواتية لم يفوتها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الصيني شي جين بينج ليخترقا مجالات لم يكن ليسمح لهما بالإقتراب منها لو وجدت قيادات مثل بيل كلينتون، جاك شيراك، فيليبي غونزاليس وخافيير سولانا…
إن الواقع على الأرض يشير إلى لعبة ثلاثية روسية/صينية/كورية شمالية تستهدف استنزاف الغرب وتشتيت مجهوداته في حرب يمكن أن نطلق عليها “حرب استنزاف محسوبة النتائج بدقة”، فلا أحد يصدق أن روسيا لم يكن بمقدورها حسم الحرب مع أوكرانيا في يومين، ذلك أن المعطيات على الأرض تشير إلى توغل كامل للقوات الروسية في العمق الأوكراني بما يضاعف من مساحة ومضمون القوة التفاوضية لبوتين، ومن هم وراءه، من أجل تحقيق أقصى ما يمكن من المكاسب على مختلف المستويات.
إن طموح الرئيس الروسي قبل الحرب ليس هو نفسه بعد الحرب، وهو أمر تعيه قيادات الدول الغربية تمام الوعي، وهو ما عبر عنه إيمانويل ماكرون وبوريس جونسون وغيرهما بالقول صراحة إن الدب الروسي استفرد بفريسته ولم يعد طموحه يقتصر على أوكرانيا، بل يتعداه إلى دول أخرى ومصالح حيوية أخرى.
يبدو أن بوتين أبان عن “كاريزما القائد الإنسان” بعد أن “أهدى” للأوكرانيين ممرات إنسانية آمنة، وغازل أمهات الجنود الروس في “عيد المرأة” في إشارة إلى نشوة الإنتصار المؤجل إلى غاية استكمال كل وسائل الضغط على الغرب وعلى “حلف الناتو”، وهو ما فهمه متأخرا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي حين عبر صراحة عن إلغائه لطموح الإنضمام إلى هذا الحلف الذي يبدو جليا أنه تخلى عن مشروع ضم عضو جديد (أوكرانيا)، وهو الذي سبق أن تخلى عن عضو كامل العضوية ومؤسس له ألا وهو تركيا عقب أزمتها مع روسيا على خلفية ما سمي بأزمة إسقاط طائرة روسية فوق الأجواء التركية.
السؤال المطروح الآن، والذي سنحاول الإجابة عنه في مقالات مقبلة، هو أنه عقب التصويت غير الملزم في هيئة الأمم المتحدة على إدانة روسيا، كيف ستعيد مختلف الدول صياغة مواقفها من هذه الأزمة الروسية الأوكرانية؟ وماهي بوادر وملامح التحالفات الجديدة على المستويين الدولي والإقليمي خاصة بعد التصريحات الصينية الرسمية التي تؤكد على عدم السماح بنشوب حرب باردة عالمية جديدة؟
+ إعلامي مغربي وباحث في العلاقات الدولية
التعليقات مغلقة.