في خطوة وصفها الكثير من المراقبين أنها ابتعاد عن مبادئ السوق الحرة ونهج لسياسية اقتصادية أكثر حمائية، قدمت المفوضية الأوروبية بداية هذا الأسبوع “إستراتيجية الاتحاد الأوروبي للأمن الاقتصادي”، التي يتوخى التكتل من خلالها تحصين نفسه بشكل أكبر ضد العوامل الخارجية التي قد تشكل خطرا محتملا على أمنه الاقتصادي.
هكذا، حدد الجهاز التنفيذي للاتحاد مجموعة من الأهداف التي تقوم عليها هذه الإستراتيجية الجديدة، والتي تتمثل أساسا في معالجة “التهديدات الأمنية” التي تمثلها الاستثمارات الخارجية وتحصين البنيات الإستراتيجية الصناعية وتعزيز الملكية الفكرية، إلى جانب تحسين تنظيم الاستثمارات في التقنيات الحيوية وتعزيز ضوابط تصدير المنتجات الحساسة ذات الاستخدامات المدنية والعسكرية.
ويرى الكثير من المتتبعين للشأن الأوروبي أن هذا النهج الاقتصادي الاحترازي، يأتي في سياق سلسلة من الصدمات والمستجدات الجيوسياسية القوية التي عانى منها التكتل الأوروبي خلال السنوات الثلاث الأخيرة، لاسيما اختلال سلاسل التوريد أثناء جائحة كورونا، والحرب الروسية-الأوكرانية وما ترتب عنها من أزمة طاقية غير مسبوقة، إلى جانب تراجع أداء الشركات الأوروبية في مقابل نظيرتها الصينية.
ولعل كلمات رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، كانت واضحة حين قالت خلال مؤتمر صحفي بهذا الخصوص، إن التكتل عليه التحلي “بأكبر قدر من الحزم” وأن يعمل على “آليات جديدة محددة” مثل الاستثمار الخارجي.
فون دير لاين أكدت، بقوة، على ضرورة جلب المزيد من بنيات الإنتاج إلى أوروبا أو بالقرب منها، وذلك بعد مجموعة من الأزمات التي عرفتها سلاسل التوريد، لاسيما تلك المتعلقة بأزمة أشباه الموصلات.
وفي هذا السياق، تعتزم بروكسيل مراجعة لوائحها التي تدقق في عمليات الاستحواذ الأجنبية بالنسبة للقطاعات الإستراتيجية وتعزيز الرقابة على صادرات المنتجات الحساسة، حيث أشارت الوثيقة الصادرة في هذا الباب عن المفوضية، على الخصوص، إلى قطاعات الذكاء الاصطناعي، التكنولوجيا الحيوية، الجيل السادس من الاتصالات، الرقائق الدقيقة المتقدمة والروبوتات.
وفي الوقت الذي رفض فيه الذراع التنفيذي للاتحاد الأوروبي الإقرار بأن هذه الإجراءات تستهدف الصين في المقام الأول، إلا أن المراقبين يرون بأن هذه الحزمة من الإجراءات تأتي في سياق مواجهة القوة الاقتصادية المتنامية لهذا البلد الآسيوي. ومع ذلك فإن بعض الدول الأعضاء في الاتحاد تعرب عن قلقها حيال استعداء الصين والدخول في حرب تجارية مفتوحة مع بكين.
وهنا يبدو أن التكتل الأوروبي يجد نفسه وسط معادلة صعبة، حيث ترغب بروكسيل، في ذات الآن، تبديد المخاوف بشأن الاعتماد المفرط على الصين والحفاظ على العلاقات مع ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وذلك في الوقت الذي أعلن فيه رئيس الوزراء الصيني خلال زيارة أجراها لبرلين، يوم الثلاثاء الماضي، أن بكين “تثمن كثيرا تنمية العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والصين”.
ومن الواضح أن موضوع السيادة الاقتصادية في أوروبا اكتسب أهمية كبرى خلال السنوات الأخيرة، الأمر الذي حدا بالاتحاد الأوروبي إلى اتخاذ مجموعة من التدابير التي تتمثل، على سبيل المثال، في تبسيط منح مساعدات الدول للقطاعات الإستراتيجية مثل الرقائق الإلكترونية، وإنشاء أداة مشتركة تهدف إلى معاقبة أي دولة توظف العقوبات الاقتصادية للضغط على أحد أعضائها.
وبحسب المهتمين بالشأن الأوروبي، فإن هذه الإستراتيجية الأوروبية الجديدة تكتسي طابعا حمائيا محضا يقوم على ربط الاقتصاد بضمان الأمن القومي، ما يسير عكس فلسفة السوق الحرة والنهج الليبرالي الذي تعد أوروبا أحد أكبر الدعاة إليه.
و مع
التعليقات مغلقة.