وصل أنتوني بلينكن وزير الخارجية الامريكي، بعد يوم واحد من عملية طوفان الأقصى، وما إن حط قدميه في مطار بن غوريون حتى عقد ندوة صحفية عبر فيها عن فحوى زيارته إلى تل أبيب، وقال وهو يلهث من التعب، كأنه أتى مشيا على قدميه، “لم آت الى هنا كوزير للخارجية الأميركية فقط، وانما بصفتي يهودياً فرّ جده من القتل“. الصحافيون الذين حضروا ندوته الصحفية تساءلوا، هل الرجل أتى من أجل إسرائيل ومن أجل أمريكا، أو من أجل جده موريس بلينكن، الذي أتى على متن طائرة من كييف إلى إسرائيل، وليس هاربا من تعقب كلاب النازية، أما الذين يعرفون موريس بلينكن، فيقولون، ودون الدخول في تفاصيل جزئية، أن الرجل غادر كييف، بسبب مشاكل اجتماعية مع زوجته، وبسببها لم يعد أبدا إلى كييف..
طبعا، لا أحد يعرف، لماذا كان أنتوني بلينكن يبحث عن شرعية من هذا القبيل لتبرير وصول أول مسؤول غربي إلى تل أبيب.. لا أحد طلب منه أن يستدل بهذه “الصكوك التاريخية”، كما يسميها بن غوريون.. كما لا أحد طلب منه تبرير زياراته العديدة إلى تل أبيب، والوقوف طويلا معتمرا قلنسوته أمام حائط المبكى..
في لقائه الأول والطويل مع الصهيوني نتنياهو، نسي الحديث عن جده، واكتفى بترديد مقولة، هنري كيسنجر، ” ستكون أمريكا معكم الآن وغذا.. فكروا فقط أننا نحمى إسرائيل، كما نحمي أمريكا.. ” وعاد أدراجه، ليرى العالم، بعد اليوم الرابع من العدوان الإسرائيلي على غزة، كيف وصلت وبالسرعة القصوى، الترسانة الكبيرة من الأسلحة الأمريكية إلى إسرائيل.. وفي نفس الأسبوع خصص الكونغريس الأمريكي 14 مليار دولار لإسرائيل.. ثم عاد أنتوني بلينكن إلى تل أبيب ثلاث مرات، حضر فيها اجتماعات حكومة إسرائيل الحربية، ليرى أين وصلت محاولات الدفاع عن أرض رفات جده..
في تصريحات زيارته الأولى، قال ” من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها”، وكأنه بهذا التصريح أعطى لإسرائيل الضوء الأخضر لضرب كل غزة، بساكنتها التي تفوق 2.5 مليون مواطن، ومساكنها. لا يهم ما ستؤول إليه غزة من خراب وتدمير وموت.. في زيارته الثانية، أعاد مرارا أن ” من حق إسرائيل أن تنهي حماس، لكن من الصعب والمستحيل أن يتوقف الحرب على غزة، لأن ذلك سيمنح حماس فرصا أخرى ستستفيد منها للاعتداء على إسرائيل، وهذا أمر غير ممكن..”
في زيارته الثالثة “، قال في مؤتمر صحفي مع نتنياهو “مصممون على دعم إسرائيل ولن نتوانى في ذلك أبدا، يحق لإسرائيل أن تدافع عن نفسها ونحرص على عدم تكرار تلك الهجمات” في إشارة إلى عملية طوفان الأقصى التي تقودها حماس وفصائل أخرى من المقاومة الفلسطينية.. وخلال زيارته الثالثة نفسها، زار عواصم عربية، إضافة إلى تركيا، لم يعقد فيها أي ندوة صحفية، وكانت بيانات وزارة الخارجية الأمريكية تكتفي بالقول، “إن المحادثات شملت ما بعد حرب حماس، ومن سيعوض سلطة حماس في غزة“..
خلال كل جولات أنتوني بلينكن، لم يتوقف عن ترديد، ” إننا غير متفقين على وقف لإطلاق النار، وسنكتفي بمناقشة حيثيات الوصول إلى هدنة مؤقتة وغير دائمة، وذلك من أجل السماح بإطلاق سراح المحتجزين وتوزيع المساعدات الإنسانية في غزة“..
في أمريكا يشعر بلينكن، أن الأمور تتطور إلى مناحي أخرى، يصعب التحكم فيها، إذ أن اتساع الجبهة الداخلية المناهضة للعدوان على غزة، وهي متنوعة ومتعددة الأعراق، زيادة على اليهود الأمريكيين، الذين اتخذوا موقفا مناهضا للحرب الإسرائيلية على غزة، واتساع رقعة المثقفين والفنانين الأمريكيين، الذين يطالبون الإدارة الأمريكية، بوقف دائم لإطلاق النار، ووقف استهداف المدنيين ، يضاف إلى ذلك نتائج استقراءات الرأي التي تمنح الرئيس بايدن نسبا، لن تمكنه من الفوز بولاية ثانية في الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي ستتم في العام المقبل..
كما بدأت خلال الأيام القليلة الماضية تباينات واختلافات بل وتناقضات في تصريحات وزارة الخارجية الأمريكية، والبيت الأبيض، ومجلس الأمن القومي، ووزارة الدفاع، إضافة إلى العديد من أعضاء الكونغريس الأمريكي، تناقضات تنم على عدم وجود اجماع على مواصلة الحرب الإسرائيلية على غزة، لكن أيضا الخوف على مصير إسرائيل، من تبعات توقف العدوان على غزة..
وتقول صحيفة نيويورك تايمز الأميركية نقلا عن مسؤولين في البيت الأبيض، إن الاستمرار في الحرب على غزة، لا يعني ضمان انتصار إسرائيل على حماس.. ولا هو هزيمة لحماس.. وهو وضع يمكن أن يؤدي إلى انفلاتات تنتقل من حرب بدأتها إسرائيل، يصعب لجمها أو التحكم فيها من قبل أمريكا.. يضاف إلى ذلك صعوبة الاستمرار في الحرب ضد جماعات وبؤر عسكرية في جنوب لبنان والعراق وسوريا واليمن.. وهي حرب تؤدي حتما إلى استنزاف الجيش الإسرائيلي وليس إلى الانتصار.. وهذا هو ما ترفضه أمريكا، وهذا هو الداعي وراء سفريات بلينكن إلى أكثر من عاصمة عربية.. لأن محاربة كل العرب، سيؤدي حتما إلى انقلاب العرب على أمريكا، وإحداث تغييرات جوهرية في المنطقة.. وأمور أخرى يصعب التكهن بها من قبيل تكرار ومعاودة دروس التاريخ المرير، في حرب فيتنام بين الميليشيات الثورية المناهضة للاحتلال الفرنسي، وبعد ذلك ضد الجيش الأمريكي إلى حين وقف الحرب على أكبر هزيمة عسكرية لحقت بالجيش الأمريكي..
الغريب في الأمر، أن أمورا كثيرة تتشابه إلى حد التماثل بين الحرب الاسرائيلية على غزة والحرب الفرنسية الأمريكية على فيتنام..
فقد تلقت أمريكا في حربها على فيتنام، انتقادات من داخل الإدارة الأمريكية، تدعوها لوقف الحرب فورا ضد فيتنام الشمالية، كما تلقت إدارة بايدن انتقادات لاذعة من العديد من أطر وموظفي وزارة الخارجية الأمريكية، في مذكرة احتجاجية سرية أطلعت عليها صحيفة بوليتيكو الأميركية، يوم الثلاثاء 7 نونبر، وتشير الرسالة إلى وجود عدم الثقة في صفوف الديبلوماسيين الأمريكيين، بشأن سياسة أمريكا في الشرق الأوسط، أولهما، أن تدعم الولايات المتحدة وقفاً لإطلاق النار، وثانيا، أن توازن بين رسائلها السرية والعلنية تجاه إسرائيل بما في ذلك توجيه انتقادات للتكتيكات العسكرية الإسرائيلية بشكل علني بدلاً من الرسائل السرية”.. فالرسائل السرية حسب المذكرة، ينتج عنها انعدام الثقة لدى الدول العربية في المنطقة، وما ينتج عن ذلك من خسائر لجهة المصالح الأمريكية في المنطقة، وتشير المذكرة إلى ضرورة أن تنتقد الإدارة الأمريكية الأعمال العدوانية ضد الفلسطينيين، وأنها ليست فوق العقاب، حتى لا تظهر أمريكا أنها متحيزة لإسرائيل ، “فعندما تدعم إسرائيل عنف المستوطنين والاستيلاء غير القانوني على الأراضي، أو تستخدم بشكل مفرط القوة ضد الفلسطينيين، يجب علينا أن نعلن أن هذا يتعارض مع قيمنا الأميركية بشكل علني، حتى لا تتصرف إسرائيل دون عقاب“..
ورغم أن الرسالة نالت توقيع العديد من أطر الخارجية الأمريكية، فإن الناطق باسم الخارجية ماثيو ميل، علق عليها بالقول، “الوثيقة كتبها اثنان من الأطر المتوسطة اللذان سبق لهما العمل في الشرق الأوسط،، وهي موضوعة على مكتب أنتوني بلنكن، وهو من سيدرسها بعناية“..
وكان بايدن ووزير خارجيته بلينكن قد استبعدا المطالبة بوقف إطلاق النار، وعبرا عن دعمهما لرغبة إسرائيل للقضاء على حماس والتفكير في من سيتولى السلطة في غزة ما بعد حماس.
لكن المتغير الوحيد الذي لا يفترض قواسم بين حرب فيتنام والمقاومة الفلسطينية، أن هذه الأخيرة تعاني من مركب حصار سياسي وعسكري، إذ يتوقف تصديها للعدوان الإسرائيلي، على ما تتوفر عليه من عتاد في السلاح، ولوجستيك مواجهة الحصار والحرب.. إضافة إلى محدودية وضيق ساحة الحرب، والكثافة السكانية في غزة، إضافة إلى انعدام التزود المتواصل بالإمدادات العسكرية، يضاف إلى ذلك الحصار الإعلامي الغربي المتواطئ والمريب ضد الشعب الفلسطيني ..
أما حرب الفيتنام، ورغم تكبدها خسائر بشرية كبيرة، لسبب من محاربتها فرنسا وأمريكا بأسلحة بدائية، فإن نجاح الثورة الصينية عام 1949، وإمدادات السلاح السوفياتي بدءا من الخمسينات، ساعد ثوار الزعيم هوشي منه، على تكبيد الجيش الأمريكي خسائر كبيرة جدا وهزيمة تاريخية، قلبت العديد من المعادلات السياسية في الداخل وفي منطقة جنوب شرقي آسيا..
في ندوة صحفية بعد سنوات من هزيمة حرب فيتنام، ، قال كيسنجر ذئب الديبلوماسية الأمريكية، هل من العدل أن لا تتصرف أمريكا كحارس لأمن العالم؟ ثم أجاب، يمكنني أن أعدكم أننا حراس أمن العالم، لكن أعدكم أن الوصول إلى العدل، له طريق غير عادلة.. وسئل الرئيس بايدن، هل أنت على علم بمجازر العدوان على الشعب الفلسطيني، قال، “رأيت صور أطفال إسرائيليين، ذبحتهم حماس“..
والحال أن بايدن لم يرى ولو صورة واحدة لطفل إسرائيلي ميت أو مذبوح، بعد ذلك، قال “أنا لم أرى صورا لا طفال إسرائيليين، لكن من أبلغوني بذلك، لا يمكن أن يكذبوا”، وفي مقام آخر، قال” إن حماس تعطي أعدادا من الضحايا غير حقيقية ومبالغ فيها..”، لكن الأمين العام للأمم المتحدة أجاب” إن أعداد الضحايا الفلسطينيين، صادقة”، فأجابه مندوب الكيان الصهيوني في الأمم المتحدة جلعاد إردان، ” إنك تعاني من تعفن أخلاقي، فقدت بوصلتك الأخلاقية، ولا يمكنك أن تظل أمينا عاما، ولو لدقيقة أخرى“..
الشيء نفسه قاله أنتوني بلينكن، ” أتيت من أجل جدي…”. أتى بصفته اليهودية، محملا بإيديولوجيا يشوع بن نون، هذه الأرض خلقت لليهود فقط، الباقي حيوانات بشرية ، عليهم أن يخلو الطريق.. اليهود صنعوا الإبادة، في أوروبا، الآن يعيدون تطبيقها .. توني مورسون الحائزة على جائزة نوبل للآداب، كتبت “أميركا تقودها أبقار غير أمريكية”، كأن إدارة بايدن تضع على ظهرها مدافع الكيان الصهيوني، لمواصلة إبادة الشعب الفلسطيني.. لا أمل..
مصطفى الزارعي
التعليقات مغلقة.