طرحت قضية مكافحة الفساد، المثيرة للجدل في تونس، نفسها بشكل حاد خلال السنة التي توشك على الانقضاء، حيث إن هذا الداء مازال ينخر النسيج الاقتصادي والاجتماعي للبلاد بشكل مطرد، مما يزيد من انتقادات المنظمات الوطنية والدولية.
فبعد مرور سبع سنوات عن الثورة، مازالت تونس تجد صعوبة من أجل شق طريقها نحو تخليق الحياة العامة، على الرغم من الإصلاحات التي تم إطلاقها والمعركة الشرسة ضد الفساد والمفسدين.
وفاجأت الحكومة التونسية الجميع في شهر ماي الماضي، عندما نفذت عملية مثيرة في سرية تامة من خلال القيام بعمليات توقيف مذهلة في صفوف رجال أعمال أقوياء كانوا يوصفون في كثير من الأحيان بأنهم “فوق القانون”، وذلك في الوقت الذي كانت تتعرض فيه هذه الحكومة للنقد بسبب تراخيها المفترض وعدم فعاليتها في مواجهة انتشار الآفة.
وعلى الرغم من أن مكافحة هذا الداء وضعت كأولوية ضمن خطة عمل الحكومة التونسية من أجل إنعاش الاقتصاد، ورغم تصميم السلطات على المضي إلى أبعد مدى في هذه “الحرب”، فقد تعرضت تونس لانتقادات كثيرة من قبل العديد من المنظمات الدولية المنشغلة بسبب “الاستفحال المقلق” لهذه الآفة في السنوات الأخيرة.
وهكذا، فقد كشف مكتب مكافحة الفساد “غان إنتغريتي”، الذي يمول الاتحاد الأوروبي نشاطه، في تقريره لسنة 2017 أن الفساد أصبح “شائعا” في العديد من الهيئات العمومية التونسية مثل الجمارك، والمالية والمؤسسات التشريعية والقضائية و حتى الشرطة. وتشير هذه الهيئة على سبيل المثال إلى أن “ما يقرب من 10 في المائة من الشركات تضطر إلى الدفع في مقابل الحصول على ترخيص للبناء”.
وفي السياق نفسه، يفيد آخر تقرير لمؤسسة كارنيجي الأمريكية للسلام الدولي بأن هذه الظاهرة أصبحت “قوة لزعزعة الاستقرار في تونس”، وهي تطال جميع مستويات اقتصاد البلاد والأمن والنظام السياسي.
وتعتبر المؤسسة أيضا أن الفساد أصبح “مستوطنا” ويتم الشعور به في الحياة اليومية للمواطنين، داعية الحكومة إلى تطبيق القوانين القائمة، والشروع بتطبيق القانون الذي يفرض على الموظفين التونسيين التصريح بممتلكاتهم وإشراك المجتمع المدني في وضع وتنفيذ تدابير لمكافحة الفساد لضمان الانخراط في الإصلاحات العمومية.
وتؤكد المنظمة أن تونس مدعوة لإعطاء الأولوية لإنشاء محكمة دستورية، وضمان استقلال القطب القضائي المالي المكلف بالبحث والتتبع والتحقيق والحكم في قضايا الفساد المالي، وإلى الاستثمار بشكل مكثف في المناطق الحدودية لمنح الأفراد العاملين في القطاع غير المنظم استراتيجيات للخروج منه، من ضمنها توفير التعليم واستحداث فرص عمل في القطاع الخاص.
وهذه النقطة يشاطرها شوقي الطبيب رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، الذى يعتبر أن الأمر يتعلق بعمل طويل الأمد من أجل فك العقد المستحكمة للظاهرة التي تنخر الدولة.
ويكشف التقرير السنوي للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في تونس لعام 2016، الذي تم تقديمه للصحافة في نونبر، عن معطيات مهمة. ويفيد التقرير بأن الهيئة تلقت 9027 مطلبا وأحالت 94 ملفا على القضاء، في حين تم حفظ بعض الملفات أو إحالتها على المديريات الإدارية المعنية أو على هيئة الحقيقة والكرامة. في حين أن ملفات أخرى توجد قيد التحقيق.
وبحسب شوقي الطبيب، فإن الآفة تنخر مجموعة من الهيئات العامة على غرار الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه (صوناد)، والشركة التونسية للكهرباء والغاز (ستاغ)، وشركة الخطوط التونسية والصناديق الإجتماعية، ومؤسستي الإذاعة التونسية والتلفزة الوطنية.
هذا الداء الذي ما فتئ ينتشر في أوصال الإدارة التونسية، يخلف انعكاسات ضارة منها “صناديق اجتماعية بعجز قدره 1.700 مليون دينار”، حسب رئيس الهيئة الذي يعترف بوجود “أزمة ثقة بين المواطن والإدارة”.
ويشير شوقي الطبيب إلى تفاقم الخسائر خاصة وأن 52 في المائة من الاقتصاد التونسي هو اقتصاد مواز، وأن الفساد وسوء الإدارة يكلفان البلاد أربع نقاط من النمو أي 2 مليار دينار في الصفقات والمشتريات العامة، و8 مليارات في تهريب المواد الغذائية المدعمة التي توجه إلى ليبيا والنيجر ومالي والسودان، فيما يمثل تهريب السجائر ما بين 500 مليون و 1 مليار دينار ويكلف الاتجار غير المشروع في الأدوية 4 مليارات دينار.
ووعيا بالانعكاسات السلبية لهذه الأرقام على النسيج الاقتصادي والاجتماعي للبلاد، أكد رئيس الحكومة، يوسف الشاهد أن الحكومة تحرص على تطبيق تدابير “وثيقة قرطاج”، خاصة في ما يتعلق بالحرب ضد الفساد، التي أصبحت سياسة للدولة.
وأكد أن الحرب على الفساد “ليست حملة انتقائية أو أداة لتصفية حسابات سياسية” مضيفا أن هذه الحرب “لا تستهدف السياسيين ولا رجال الأعمال أو غيرهم. إنها حرب تستهدف كل الفاسدين و كل من يريد إضعاف الدولة”. واعتبر “أنها سياسة لحماية الديمقراطية التونسية التي لن نسمح باستغلالها على الصعيد السياسي “.
وأبرز أن هذه السياسة تهدف أيضا إلى التصدي لأولئك الذين يحتكرون الأسواق، مما يؤثر على القدرة الشرائية للتونسيين، مؤكدا أن الحملات ستزداد في الأيام المقبلة ضد المضاربين من خلال المراقبة الاقتصادية اليومية.
غير أن هذه الإرادة تظل غير كافية في نظر عدد كبير من الأحزاب السياسية والفاعلين في المجتمع المدني وحقوق الإنسان، الذين ينتقدون اعتماد البرلمان لقانون مثير للجدل بشأن المصالحة الإدارية. وهذا هو حال المركز الدولي للعدالة الانتقالية، الذي يعتقد أن هذا القانون يمهد الطريق للفساد بدلا من محاربته.
ويرى المركز الدولي للعدالة الانتقالية “أن القانون الجديد لا علاقة له بالمصالحة”، معتبرا أن القانون يشجع على الإفلات من العقاب ويمنح عفوا لمسؤولي الدولة الذين خدموا في ظل النظام السابق. ويضيف المركز أن “هذا المشروع يخدع جميع التونسيين الذين انتفضوا خلال ثورة الكرامة والديمقراطية”.
وبحسب سلوى القنطري، رئيسة مكتب المركز الدولي للعدالة الانتقالية في تونس، فإن “التونسيين كانوا يعرفون أن عليهم أن يقطعوا بحزم مع الماضي من خلال اعتماد القوانين التي تضمن عدم عودة آفة الفساد”.
واعتبرت أن هذا القانون يمنح عفوا وليس مصالحة حيث إن “الموظفين الفاسدين لا يحالون على القضاء، مما يخلق انتهاكا لمبدأ المساواة أمام القضاء”.
وتعرض مشروع قانون المصالحة، الذي تدارسته في يوليوز لجنة التشريع العام بمجلس نواب الشعب، لانتقادات متكررة من قبل مختلف مكونات المجتمع المدني، وخاصة من طرف منظمات غير حكومية مثل “البوصلة” و”أنا يقظ”، التي تعتبر أنه يشجع على “الإفلات من العقاب وعدم المساواة أمام القانون بين المواطنين”.
وبرأي بعض المراقبين، فإن المعركة ضد الفساد يمكن كسبها من خلال إطلاق عمليات قوية بين الحين والآخر واعتماد بعض النصوص التي مازالت جامدة في أروقة البرلمان، مثل قانون مكافحة الإثراء غير المشروع أو قانون التصريح بممتلكات نواب الشعب وكبار المسؤولين.
ح/م/محمود القلعي
التعليقات مغلقة.