+ د. خالد فتحي: وأنت تهم باقتحام الحمى الفكري لزعيم كعلال الفاسي ،تتملكك رهبة وخوف حقيقيان ، لأنك تشك في قدرتك على مخر عباب هذا البحر المتلاطم من نظريات وأفكار الرجل ،أو بسبب أنك ترى، أنه من كثرة ماكتب عن هذا النابغة الجهبيذ ،سيصعب عليك أن تخطر لك زاوية أو مقاربة عنه غير مطروقةمن قبل ، يقع لك هذا ،فتتردد ،وقد تحجم ،لكن علال يغمرك بشمولية فكره، وتعدد اهتماماته ،و تنوع المجالات التي كتب وأبدع فيها ،وراهنية القضايا التي عالجها ،فيسعفك،ويمدك كل مرة بما يمكن أن تكتب عنه . فعلال نبع فكري لاينضب،وشلال أفكار هادر.كتاباته كثيفة المعنى بما تضمره من برامج وقيم وطرائق ومناهج للتفكير. هو من طينة الكتاب والزعماء، الذين يستمرون في الكتابة والتأليف حتى بعد وفاتهم، بفضل تراث عظيم خلفوه لم يتسن لهم نشره ، أو مدرسة فكرية و سياسية أسسوها فحملت مشعلهم من بعدهم .وهذه الخاصية التي ذكرت، هي من أول مايبرهن لنا به علال عن تحرر فكره وشموليته الذين تقترحهما المؤسسة التي تحمل اسمه للدرس هذه السنة بمناسبة ذكراه الذهبية .فعلال يثبت من خلال الكتب التي لازال يصدرها، والندوات التي تعقد حول إنتاجه، أنه متحرر من التغييب الفيزيقي الذي يشكله الموت، وأنه مستمر حيا طليقا محلقا بفكره الحر في الآفاق. كما أن استمرار الحاجة لفكره لدليل على شمولية فكره ضمن بعد لايخطر للكثيرين كون التنظير لديه لم يقتصر على المستقبل القريب للمغاربة حين كان حيا بين ظهرانيهم ،بل شمل عنده وعلى وجه الخصوص مستقبلهم البعيد الذي يجري الآن عقودا بعد رحيله .فعلال لم يفكر لزمنه فقط، وإنما فكر لحقبة تاريخية لم تنته بعد سواء بالنسبة لوطنه المغرب أو لأمته العربية و الاسلامية . والتي لن تنقضي إلا بعودتنا كما أراد لنا لدورنا الرائد بين الأمم .هو إذن لم يكتف بصياغة وتسليم البرنامج لأبناء جلدته فقط ،وإنما أرشدهم لطريقة إعداده وتحيينه بخوضه في مسائل التفكير ،لكأنما يحررهم من الركون حتى لأفكاره هو، والتي اعتبرها غير نهائية، لا له، ولا لهم .وبالتالي ينبهنا إلى أن حرية التفكير هي عملية تحرر متواصلة من الجمود، تنهض بها الأمة برجالها ونسائها الأفذاذ عبر الزمن ،أي انها الاجتهاد المتصل من خلال قواعد واضحة للتفكير يتم إعمالها جيلا بعد جيل . فتظل عملية التفكير ثابثة هي هي ،ويختلف الفكر تبعا لتغير الأحوال والظروف المادية ، وهنا يجدر أن نتساءل إن لم يكن لب ماقصده علال من كل كفاحه الفكري والسياسي ، هو أن يحضنا نحن على التمسك بحرية الفكر وشموليته.فحرية التفكير وشموليته عند علال ليست عبارة تمجيدية من صنف العبارات التي يطري بها عادة المريدون زعمائهم بفعل التعود والرغبة في إعلاء مكانتهم الفكرية، دون أن يعنوها أو يفقهوا المغزى منها ،بل هي فى حالة هذا الزعيم تعد علامة عليه ،ووصفا دقيقا لعطائه المتميز ،و تلخيصا وعصارة اما هدف إليه، سواء تبين تلامذته هذا المعنى أو لم يتبينوه،أو وقفوا بين تبينه وعدم تبينه ،ولذلك لابد من سبر أغوار هذا الملمح من فكر علال سبرا شافيا ،لأنه سيجعلنا ننفذ لجوهر تفكيره ونضاله ، ونربط الصلة بمنهجه قبل أن نربطها بنتاج فكره ، ممايضمن مواصلة خطه الفكري، وهذا ما يرومه علال و ترومه معه مؤسسته مشكورة في ذكراه البهية هاته .علال كتب في سنة 1949″النقد الذاتي” الذي كان يريده برنامجا لأمته ،وما كان ليكتبه إبان الاستعمار لو أنه كان يشعر بنفسه مستعمرا مكبلا مهزوما .ذاك أن الاستعمار كان أضعف من أن يقيد فكرت كفكر علال .وكيف كان يتأتى له أن يقيد فكر من قال : ” الفكر حر لايستطيع أحد أن يقيده ،ولم يجعل الله لأحد سلطانا على حركة الإنسان الداخلية “؟.حرية التفكير لدى علال الفاسي كانت قوية لدرجة إطلاقه العنان في “نقده الذاتي” لأنانية الإنسان، ولكنه دعا لأنانية محمودة و سعيدة و نبيلة كما سماها هو…أنانية تكدح في خدمة منى الشعب وطموحاته .وبذلك حرر التفكير من التطرف، ومن المغالاة، و من الانتهازية ،مع المحافظة له على قوة الدفع التي تمثلها هذه الأنانية.
التفكير اجتماعيا او التفكير بالغير ، يعني عند علال أن نشمل بنفكيرنا جميع الطبقات والجهات والفئات والأعمار والرجال والنساء معا ،ويعني أيضا أن ننظر إلى كل المجالات التي تحقق لنا التنمية . ومع ذلك فهذا هو الظاهر في وصية علال ، اما الباطن فهو يعني بالأساس، أننا عندما نفكر في ظاهرة أو قضية يجب أن نملي فيها النظر ،و نفكر فيها من جميع جوانبها، وأن نقاربها من كل الزوايا ،مما يجعلنا نتوقع الآثار المستقبلية لمانقترحه من افكار، فنضمن توازن ونجاعة واستدامة مخرجات تفكيرنا . كان علال إذن ضد تجزئة القضايا ،لأن ذلك يختزلها ويبتسرها، ويحرم تفكيرنا من خصلة الاستباقية ، لأن المفكر يصاب ساعتها بقصر النظر فتعود الحلول مجرد أوهام وسراب وبلاغة . وهذا ما نلاحظه للأسف في مناقشة العديد من القضايا عندنا حاليا .
أهم ما في كتاب النقد الذاتي هو هروع علال فيه إلى ما أسميه بالتفكير في التفكير ،فقبل أن يتطرق للفكر الاجتماعي والإداري والاقتصادي،أطلعنا أولا على آلية التفكير .أي أنه تفحص الأداة، و وضع معايير للتفكير.وبين كيف توصل لأفكاره ،وهذه المعايير التي سكها أو كشف عنها، لا تحد أبدا من حرية التفكير، بل هي تدل على ماهو التفكير حقيقة .إذ باجتماعها فقط يكون التفكير تفكيرا، لا عبثا ،أو هوى، أوظنا، أو تفاهة، أو ضحالة مزوقة . يرفض علال تفكير السذاجة والارتجال ،ويتطلع لتحريره منهما معا. كما أن التفكير عنده ليس عملا مرسلا نقوم من خلاله بإسقاط المرجعية والتخلص من القيم ، وإنما هو القدرة على التحرر من منغصات التفكير وشوائبه ومن ضمنها التبعية العمياء والانغلاقية والتلفيقية والانبهارية بالآخر “القوي” .ليس بالتحرر مثلا في زمننا هذا ،بالمنطق العلالي ،أن نطلق العنان لتفكيرنا دون ضوابط فنشرع لأهوائنا بدعوى أننا متحررون تفكيريا . “تفكيرنا” في هذه الحالة يكون واقعا تحت سلطة وتأثير لوثة الاستهلاك لاغير . وبالتالي هو تقليد واستكانة وخنوع وليس تفكيرا، لأننا لم نتحرر فيه من معيقات التفكير السليم لعصرنا، و التي في طليعتها السوق،وبهذا يكون التحرر الفكري في زمننا هذا طبقا لوصية علال هو أن ننتبه لهذا التأثير ونتحرر منه قبل أن نفكر للشعب .وهنا نصل لفهم مانحا إليه علال من الإيمان بأرستقراطية التفكير وبأهلية النخبة وحدها للقيادة، فالتفكير في الأمور العامة عملية مركبة معقدة لها محاذيرها كي تكون بالفعل تفكيرا لصالح الأمة. وهذا ماتستطيعه حصريا النخبة المعدة إعدادا صحيحا. يمكن القول بأن علال الفاسي قد أرسى نموذجا للتفكير العلالي يجب أن يشكل بالنسبة لنا مصفاة نميز بها الغث من السمين من الأفكار… مصفاة يمكن أن نعرض عليها كل ماتقترحه النخبة السياسية والحزبية علينا قبل إقراره مجتمعيا .لنر هل طبقت معايير علال في التفكير ،فنطمئن لصواب خياراتها ،وبالتالي يكون علال من خلال نظريته في التفكير ، قد أثبت أنه فعلا ذاك الزعيم الذي وصل أعلى مقامات العقلانية والتنوير والعصرية ،و أنه ذاك المفكر والمثقف العضوي والعصري العابر للأجيال الذي أسس لمدرسة خالدة في الفكر والتفكير معا .
+ كاتب مغربي
التعليقات مغلقة.