“تغرّبْ عن الأوطان والحال والحق عساك تحوزُ الأمر في مقعد الصدق”
ابن عربي
“ألا يكفي أننا غير قادرين على إسعاد بعضنا البعض؟ هل ينبغي أيضا أن نحرم بعضنا البعض تلك اللذة التي يمكن لكل منا أن يتذوقها في أعمال قلبه”
غوته
ذ.عبدالعزيز كوكاس: الكتب العميقة تمضي قدما نحو الخلود بلا ضجيج عشاقها ولا معارضيها كما الحقيقة دوما، كما الجمال، هكذا هي رواية أحمد التوفيق التي أعتبرها ليست ذيلا أو تكملة لما خطه يراع التوفيق من إبداعات روائية حازت نصيبها البهي من الاهتمام النقدي والأكاديمي والفني عامة، لكنها انعطاف في مسار مشع، إنها قصة اندماج الشخوص في رحلة بحث عن الحقيقة انطلاقا من رؤيا، وهم يواجهون علاقات اجتماعية وقيودا سنها العرف والموروث في قلب واحة تينونا، ذات الآبار التي تجعل المكان صلة وصل، نقطة تقاطع تجاري وثقافي وحضاري بين المغرب والمشرق، بين الشمال والجنوب، وفيه تجري كافة التحولات الكبرى التي تشهد على فضاء لا يحضن فقط الأحداث المركزية المحركة لسيرورة تنامي السرد، وحركة وردود فعل الشخوص، بل فاعلا في بحثهم الشاق عن أجوبة للأسئلة الكبرى التي تؤطر رواية بها حبكة قوية وشخوص يتم بناء ملامحهم أثناء الاشتغال على الحدث، بلغة متوهجة، تعكس رؤية الكاتب للعالم، الزمان، التاريخ، الحب والحقيقة…
ليست رواية (واحة تينونا أو سر الطائر على الكتف) ببهائها السردي ولغتها الإشراقية الباذخة التي تأسر قارئها وتشده بوثاق محبة للمكنون فيها، مجرد جرد لوقائع حدثت أو ممكنة الحدوث في هذا المغرب القصي، ولكن هو هذا الخيال الواسع الذي مكّن من استجماع أطراف قصية منصهرة في بوتقة متن حكائي محكم وممتع.. ومن خلال قصة علاقة شيخ القبيلة أحمد بالجارية أروى التي قُدمت له إكراما كهدية له خلال إحدى الرحلات التجارية “أكابار” القادمة من غرب السودان.. تُسائل الرواية في عمقها الأزمة الحضارية الكبرى التي نعيشها، حالة التيه، اللايقين، التوهم، والبحث عن المعنى، معنى الذات ومعنى الآخر، ومعنى الحرية أي التحرر من الآخر ومن النفس قبل كل شيء، ف”العبد” عيسى يؤكد لسيده، أن الشيخ لا يملكه لأنه لا يملك نفسه حتى..
تضع رواية أحمد التوفيق معنى الحتمية وأوهام التقدم، وما أورثتنا إياه النزعة الوضعية، في قلب الأسئلة الكبرى، ولعل رحلة نزع الأردية التي ظل يقوم بها الشيخ أحمد في بحثه عن حل اللغز، ليست سوى محاولة للخروج من أزمة الوهم إلى الوجود الذي يعتبره الروائي، عقلا مغايرا للإنسان وللزمان والتاريخ والعالم، نحو عالم أكثر صفاء، عالم يتحرر من الأردية أو الأقنعة، من غريزة التملك للأشياء كما للإنسان عبر مختلف السلط، عالم يُبنى فيه الحب على الخلاص من الأدران، والتشوف للكمال، دون القفز على مختلف الإشكالات العميقة التي تدخل في إطار العلاقات الاجتماعية بواحة تينونا وبصراع السلط، والعلاقات غير المتكافئة بين مختلف الفئات الاجتماعية في هذا الجزء من المجتمع الصحراوي، ودور المال في توزيع المنافع والسلط والتراتبيات، كما المصائب بين مختلف الطبقات.
عتبات الافتتاح وسيرورة النص الحكائي
تنفتح الرواية على إيقاع تحديد المكان تين أونا، “هذه الواحة منزل كبير وسوق عظيمة في طريق التجارة الصحراوية بين المغرب وبلاد السودان”، هنا يرتسم سر العنوان الأول واحة تينونا أي ذات الآبار ، فالواحة عدن الصحراء، حياة في قلب العدم، هنا خرير المياه والخضرة والنبت والزرع في وادي ذي ضرع، تنبت الجماعة ونظامها القبلي وشراكاتها مع محيطها، تأتي القافلة محملة بتباشير للتجارة والأخبار والرواج الاقتصادي والتلاقح الثقافي، تماس الشرق والغرب، دورة الشمس الكاملة تحط رحالها وحمالتها في رحلتين، كما في رحلة الشتاء والصيف، وتحمل معها كنوز المال والثقافة والعادات والأخبار إلى الهناك، فالقوافل عبّارة للبلدان، راسمة لخيوط سرية للتثاقف والتلاقح الحضاري إلى جانب التبادل التجاري، مع القافلة “أكابار” تأتي الهدية، من صنف الجواري الأبيّات والذكاء المسخر في الخدمة والعواطف على حد سواء كما نقرأ في (ص13)، حيث يسأل الشيخ عن هذه المرأة الغريبة والاستثنائية: “هل هذه التي تصفها مَلَك أم أنثى من بنات النساء؟”، إنه بداية تجسيد ذلك الانصهار العجيب والغريب بين صبوة الجسد وصفوة الروح.
ثم تأتي جملة “سر الطائر على الكتف” كتجسيد للرؤيا التي تشكل انعطافا في سيرورة الحكي، نحو طريق ثوري روحاني لنزع الأردية للوصول إلى السر الذي يشبه قشرة البصل، حيث لا لب ولا قشرة، بل كلها ألباب، والمعنى الديني والصوفي يبدو هنا حاضرا بقوة.. يفصل شطري العنوان أداة (أو) “واحة تينونا أو سر الطائر على الكتف”، التي هي حرف عطف تفيد في معانيها: الشك والتخيير والإبهام، ولكل المعنى الذي يريد. الجملة الأولى من العنوان جملة إسمية تحيل على الواحة كفضاء لأحداث الرواية، و”سر الطائر على الكتف” جملة إسمية أيضا تحيل على المحرك الذي يشكل انعطافا في مسار الشخوص والأحداث في عملية البحث عن لغز الرؤيا.. عبر رحلة دامت أربعة عقود في رحاب المجاهدة بالنسبة للزوج، أما الزوجة أروى، فقد كانت ليلة واحدة كافية لكشف الفضل للشيخ أحمد للتدرج في مراتب التصوف والعلم بالله والتوحيد الخاص.
الواحة كفضاء للمكابدة الرؤيا كمحرك للحدث الحكائي
تتمركز أحداث رواية “واحة تينونا أو سر الطائر على الكتف” حول رحلة في الذات وفي الوجود من أجل مصادقة الروح في مخابئها المعتمة، رحلة نورانية يخوضها أحمد شيخ قبيلة الواحة، من تدبير متواطئ بين زوجته أروى وخادمه الوفي عيسى للانتقال من الوهم، من عالم الظلال والأشباه كما في كهف أفلاطون إلى نور العرفان، رحلة نحو المعنى، تقول الزوجة أروى (والاسم مشحون بالدلالات العميقة التاريخية والدينية والنفسية أيضا): “وندرك اليوم بعد ما تهاطل علينا من الأفضال أننا كنا فيما يشبه المغارة، مغارة وهم، يحب فيها الواحد نفسه في صورة الآخر” (ص203)، ويكون هذا الانتقال عبر التدرج من مرقى صوفي إلى آخر لتصادق الروح عمقها وصفاءها مثل مرآة مجلوة، يقول عيسى خادم الشيخ أحمد: “إدراك الروح يكون بالفضل مع المجاهدة، وقد يكون بالفضل دون المجاهدة في بعض الأحيان”، و”غوص في لذة الباطن دون زهد ممجوج لما هم فيه من الطيبات”. (ص181)
نحن أمام شخوص مسكونة بالبحث، مهووسة ببعد عرفاني، تستسلم لهذا الصوت القادم من أقاصي الروح بغواية لا توصف، حتى وهي تخوض في مجال التدافع في الأرض، تقودنا رواية “واحة تينونا أو سر الطائر على الكتف” نحو عوالم يتشابك فيها الواقعي والمتخيل، التاريخي والأسطوري، الجماعي والفردي، العجائب والغرائبي، حيث تتعايش الذاكرة الجماعية مع الذاكرة الفردية، تسيران جنبا إلى جنب، وتتم إعادة بناء تاريخ الذاكرة الجماعية عبر التخييل، إن استعادة الوقائع هنا، ليست مطلوبة لذاتها، بقدر ما هو استدعاء لمرآة مجلوة نرى في صفائها ذواتنا، في هذا الحاضر حيث يحاصرنا اللايقين، وأوهام الملذات وتوهم السعادة…
الطير كإشارة للتجلي والمجاهدة النفسية
تتمحور الحكاية حول سيرة استثنائية للبطل المحوري في الرواية أحمد شيخ قبيلة تينونا وبرفقته زوجته أروى التي لا تقل عنه حضورا وفعالية في سيرورة المحكي، مرة باعتبارها ساردا ومرة باعتبارها مسرودا له، وفي كلتا الحالتين تبدو أفقا للحكي ومحركا لأحداثه، محرك هذه الرحلة يتمثل في محاولة فك لغز، ألم تبدأ الفلسفة بالسؤال، برحلة البحث عن حل لغز عالم معقد، في حالة رواية أحمد التوفيق، هو لغز الطائر على الكتف، الذي ابتدأ برؤيا وانتهى بوقائع وحالات ومقامات… تقول وئام في نهاية الرواية: “فقد سمعت من شيخها بالبصرة أن أروى بشّرها أحد الحكماء بقوله: إنك في حياتك ستستظلين بشجرة أمان تحط عليها الطير” (ص282)، هذا الطائر الذي يحط على كتف الخادم عيسى. إشارة للتجلي، ومنذ بروز رؤياه، ستبدأ عملية البحث عن حل لغزه، وهو ما يعطي دفعة قوية لتنامي السرد وامتداد الحكاية.
يحيلنا الطائر على موروث رمزي وثقافي إسلامي وكوني، كما ورد في القرآن الكريم، من الغراب إلى الهدهد وطير أبابيل، حتى المعاني الرمزية والأسطورية مع طائر السيمورغ أو الفنيق، إلى مختلف الدلالات الروحية التي حمّلها الصوفيون للطير، ولنذكر على سبيل التمثيل لا الحصر كتاب فريد الدين العطار “منطق الطير”، نقرأ في ص60 من الرواية: “إن إشارة الطائر إنما هي استمالة على مثال الإشارات التي تأتي لمن كتب له كشف بعض الحجاب”. وفي ص 192 تخاطب الزوجة زوجها شيخ القبيلة: “أنت الأصل في هذا الفضل، والطائر على كتف عيسى لم يكن سوى إشارة واستئناس”.
في تفسير رؤيا الطائر في المنام معاني عديدة لدى ابن سيرين: “الطائر المجهول في المنام دال على مَلَك الموت وذلك إذا رؤي في المنام بأنه التقط حصاة أو ورقة أو دودة أو نحو ذلك وطار بها إلى السماء من بيت فيه مريض.. وقد يدل الطائر في المنام كذلك على المسافر (أو السفر) وذلك لمن رآه بأنه سقط عليه.
وقد يدل الطائر المجهول في المنام أيضاً على العمل، وذلك لمن رآه وكأنه على رأسه أو على كتفه أو في حجره أو على عنقه، لقوله تعالى: {وكُلِّ إنسانٍ ألزَمُناهُ طائِرَهُ في عُنُقهِ} أي عمله، فإن كان الطائر الذي رآه في المنام بأنه على رأسه أو على كتفه أو في حجره هو طائر أبيض اللون فإنه يدل على عمل صاف، وإن كان طائراً كدراً أو ملوناً فهو يدل على عمل مختَلفٍ أو عمل غير صاف”. طائر واحة تينونا قريب من هذا المعنى وأبعد منه في الرؤية العرفانية العميقة. يقول الكاتب أحمد التوفيق: “اكتشاف مسار أو سلوك غير معتاد لزوجين توفرت لهما في الحياة كل المطالب، فتشوَّفا إلى شيء آخر لا يعرفان ما هو، ولكنهما غامرا بالبحث عنه، وأن هذا الشيء هو المعبر عنه في النص ب”سر الطائر على الكتف”، تشوُّف قادهما إلى محنة هي ثمن رفع حجاب كان يفصلهما عن الشيء، الذي تبين أنه حقيقتهما أو “الحقيقة” ودونه خرط القتاد أو كشف حجاب الأنانية”. كيف تغدو المحنة محكا للمحبة، للكشف، لارتقاء مقامات رفع الحجب، للمجاهدة لامتلاك ما لا يرى، مقودا بصوت الحلم يسير الزوج نحو ما يعتبره لغزا، قدرا تراجيديا، وفجأة يجد وزوجته أنه لا يوجد وراء ذلك السر المحجوب غير أنفسهما، بكامل التجلي، لقدرهما المرسوم بابتهال في لوح الغيب والرؤيا.
يبدأ الزوجان في تلقي شروط كشف لغز الطائر على الكتف من خلال ما يتلقاه عيسى عبر أسياده الذين لا يراهم (ص55)، حيث لا تنجلي الحجب إلا عبر المجاهدة ونزع الأردية، وبالعودة إلى المعجم سنجد حوضا دلاليا كثيفا لكلمة رداء التي تفيد: الموت، الهلاك، القتل، السقوط، والارتداد عن الدين، والغطاء الخارجي من اللباس.. إنها “أردية شهوة المال وشهوة الجنس وشهوة الرئاسة”(ص 170).
من الحمد إلى النور، تبدلات القيم وسيرورة المجاهدة
ذات صباح حزين ستستيقظ الواحة على وفاة شيخها، فأسندت مهمة تدبير أمورها لعيسى فيما يشبه قلب الأدوار من المرؤوس إلى الرئيس، من العبد إلى السيد، وقبلها كانت رحلة مدارج السالكين، حيث أصبح السيد مريدا والعبد شيخا.. كان حزن الناس عميقا، ومنذ “وفاة الشيخ أحمد والعيون في داخل الواحة وخارجها متجهة الى أروى.. وهي من هي في حصافة عقلها دون ذكر إهابها وحسنها ورونقها وكان الانطباع العام، هو أنها صاحبة الأمر والنهي في الواحة في أيام الزوج المحنك فبالأحرى أن يكون كذلك أيام عيسى” ص 242. تتخطى الزوجة الأدوار التقليدية التي أبدعت فيها وكانت سيدتها، طبخا وفنا وتربية وغواية وإنتاجا، إلى ما هو أبعد من ذلك، فك لغز سر الطائر على الكتف.
بسبب التحولات التي حدثت في الواحة والقرارات التي قادها شيخ القبيلة وخلفه الخادم الذي تم تحريره كما باقي العبيد، دبر الأعيان مكيدة اغتيال عيسى بعد ما عُين قائدا على واحة تينونا، تولى أمر الواحة نور ابن الشيخ أحمد الذي ستختار له أمه جارية وسيمة من العراق اسمها وئام التي ستتحول إلى فانو، فيما يشبه استمرار الربط الروحي بين المغرب والمشرق.. ستتوالى الأحداث بشكل متسارع لتبلغ ذروتها مع موت أروى.. تقدم ولدها نور جنازة مهيبة، وما أن أكمل المؤبن الدعاء للمرحومة حتى “ظهر في الأفق فوق رأس الجماعة أمر أعجب”، طائر جميل اللون يحط على كتف نور، فتذكر بعض الخدم طائر عيسى وتعجبوا، وأخذ ساكنة الواحة “يكبرون ويهللون، وقد غشيهم الاطمئنان الى أن قابل حياة الواحة بهذه المشيخة في أمان” صفحة 287. لقد ظهر في الختم مغزى عنوان الرواية بالتجلي الأسمى.
* واحة تينونا أو سر الطائر على الكتف” أحمد التوفيق -الطبعة الأولى 2022- مطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء، تقع في 287 صفحة من الحجم المتوسط.
التعليقات مغلقة.