بالقدر الذي تلقى الجسم الصحفي وهيئاته ومعهما الحركة الحقوقية، بارتياح كبير المبادرة الملكية بالعفو على الصحافيين المدونين بمناسبة عيد العرش، فإن الأمل يظل مشرعا في أن يفتح هذا القرار أفقا جديدا في مسار اصلاح عميق لقطاع الصحافة والاعلام، ويرافق ذلك توسيع هوامش حرية التعبير التي تعد حرية الصحافة أرقى تعبيراتها .
من هذا المنطلق فلا سبيل لنهوض وتطور صحافة جيدة دون ممارسة لحرية التعبير، كما أنه لايمكن للإعلام أن يكتسب المصداقية الضرورية، وأن ينهض بالدور المنوط به ويتبوأ المكانة الجديرة به في الحياة العامة، ما لم تمارس هذه الحرية في نطاق المسؤولية، كما جاء في الرسالة الملكية الموجهة للصحافيات والصحافيين بمناسبة تخليد اليوم الوطني للإعلام في 15 نونبر 2002 .
اصلاح عميق
في ظل التكنولوجيات الحديثة، وما تشهده العديد من مناطق النزاعات والحروب، ومقدمتها العدوان الاسرائبيلى على غزة، تحول الاعلام، الى سلاح فتاك يستعمل في المعارك كانت عسكرية أو سياسية ودبلوماسية، بغاية التأثير على الرأي العام، وهو ما تلجأ اليه البلدان المتطورة، ويساهم في فرض المزيد من الهيمنة والاستقطاب لأطروحاتها.
لذا لم يعد لا الوقت ولا الظروف على الصعيدين الوطني والدولي، ينفعان بالتشبث بالأسطوانة المشروخة “كم حاجة قضيانها بتركها”، وهذا ما يقتضى في ظل التحولات الجارية والمتسارعة إدخال اصلاحات عميقة على مجال الصحافة والاعلام والاتصال الذي هو في أمس الحاجة الآن الى تغيير جذري، يرتقى به الى مستوى ما يتعين أن يقوم به في مجال الإخبار والتثقيف والترفيه.
كما يتعين أن تتحول هذه المبادرة الملكية، إلى فرصة للقطع بشكل لا رجعة فيه مع السلبيات والاختلالات المزمنة على المستوى الموضوعي والذاتي التي تعاني منها وسائل الإعلام العمومية والخاصة، الأمر الذي أدى الى عزوف شريحة كبرى، من مكونات الرأي العام تشيح بوجهها عنها، متخذة من منصات وسائط التواصل الاجتماعي،ملجأ ومصدرا لمعلوماتها وللتعبير في نفس الوقت عن آرائها ومواقفها حول القضايا المطروحة.
تنقية الاجواء
وعلى الرغم ممما تحقق من تطور ،على المستوى الدستوري والقانوني والتنظيمي منذ العقدين الماضيين في مجال الصحافة والاعلام الذي نصت المادة 28 من الدستور .. فإن المتغيرات الجديدة، تتطلب الإسراع بإعادة النظر في كافة في هذه التشريعيات والتنظيمات وذلك وفق مقاربة تشاركية، بموازاة مع تنقية الاجواء الاعلامية التي تتطلب تجاوز حالة الاحتقان والبحث عن المشترك وتجسير العلاقات بين الفاعلين في الحقل الإعلامي من مختلف المواقع، والاحتكام للكفاءة والمهنية والاستقلالية المهنية والحكامة.
وإذا كان من المعروف أن الصحافة تعد فاعلا أساسيا في الحياة العامة وشريك في البناء الديمقراطي لبلادنا”،فإن التفاعل الجاد والايجابي مع المبادرة الملكية بالعفو على الصحافيين، يقتضى من الفاعلين كلا من موقعه الترفع عن المصالح الذاتية والصراعات المصطنعة التي تساهم بشكل مباشر في مزيد من تراجع منسوب ثقة الرأي العام في وسائل الاعلام الوطنية.
إن المشهد الإعلامي الوطني لا يمكنه أن يرفع تحديات الألفية الجديدة التي تفرضها عولمة بث البرامج المعروضة عبر وسائل الإعلام والتعميم التدريجي للاستفادة من موءهلات مجتمع المعرفة والاتصال، ” مالم تتم إعادة النظر بصفة جذرية في مناهج عمله، وما لم تتوفر له النصوص القانونية والأدوات والموارد اللازمة”، كما أكدت الرسالة الملكية.
تغيير جذري
إن الحاجة ماسة كذلك اليوم إلى القيام بنقد ذاتي للممارسات السلبية التي تسود المشهد الاعلامي، والعمل على تشريح دقيق للوضعية الصحافية الراهنة، وإعداد خارطة طريق واضحة وقابلة للتنفيذ، تأخد بعين الاعتبار التحولات الطارئة وطنيا وقاريا ودوليا، والموقع الاستراتيجي الذي أصبح يحتله الإعلام في الألفية الثالثة، بغية مواجهة التحديات المتعددة المطروحة في ميدان الصحافة والإعلام التي فاقمت من حدتها الثورة الرقمية.
كما يتطلب الأمر الانتباه الى الأهمية التي تكتسيها حرية وسائل الإعلام بالنسبة للديمقراطية وللسلام وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، حيث إن الإعلام الحر المستقل القائم على التعددية يشكل أحد ركائز المجتمعات الديمقراطية، التي لا يمكن أن تحيا بدون حرية الصحافة وحرية التعبير.
وإذا كان المغرب قد اعتمد التعددية السياسية، خيارا لارجعة فيه ومنهجا قارا لبناء مجتمعه الديمقراطي. فإن هذا الخيار، يقتضى إقامة نظام ومؤسسات تخضع لقواعد الديمقراطية، والارتكاز على تأهيل المبادرة الوطنية لتمكينها من أفضل شروط الأداء والممارسة في كافة المجالات وفي سياق يتميز بالمنافسة الشديدة والتسابق المحموم، وهو ماتوقفت عنده الرسالة الملكية لسنة 2002 .
طريق شاق
غير أن هذا الخيار يستوجب كذلك إقامة دولة الحق حيث يسود القانون روحا ومنطوقا ويصبح الجميع ملزمين به حيثما كانوا ومهما تكن حيثياتهم وفق نفس الشروط، وهي مسؤولية يتقاسمها الإعلاميين مع الدولة ومع كافة الفاعلين في الحياة العامة حسب المنطوق الملكي الذى أكد أن الطريق مازال طويلا قبل التمكن من تحقيق انتشار الصحافة على النطاق المطلوب.
وإذا كان المغرب قد اهتدى الى إقرار نموذج تنموي جديد، لكن مع الأسف يظل خارج الزمن الإعلامي، فهذا النموذج الذي يرهن المغرب الى سنة 2035 ، لم يول الاهتمام الكافى الذي يستحقه الاعلام، رغم أنه يشكل معادلة حاسمة لأي تطور مجتمعي فضلا عن أن ” مشروع الهولدينغ الإعلامي الجديد” الذي من المرتقب أن يجمع قنوات القطب العمومي، تحت لواء واحد، لم يتسرب عنه لحد الآن أي شيء كما لم يثر أي الاهتمام ولم يخضع لنقاش عمومي من طرف الفاعلين، في الوقت الذي يمكن أن يشكل الإعلامي العمومي قاطرة للأعلام الوطني.
بيد أن التغيير المنشود في الاعلام الذي تحول إلى سلطة أولى، بوظائف مختلفة، يتطلب كذلك الإرادة والإدراك الحقيقيين لكافة الفاعلين لدور هذا القطاع ومكانته الحاسمة في تنشيط الحياة الديمقراطية. غير أن ذلك قد يحدث عبر مناهج بيداغوجية، وبالإقناع من أجل تحقيق مصالحة المواطنات والمواطنين مع وسائل إعلامهم، الاستيعاب الإيجابي لرهانات الثورة الرقمية.
د.جمال المحافظ
التعليقات مغلقة.