ترامب ينهي العمل بميثاق ما بعد الحرب العالمية الثانية!! | حدث كم

ترامب ينهي العمل بميثاق ما بعد الحرب العالمية الثانية!!

06/03/2025

بقلم: عبد الهادي مزراري: ما تزال المقابلة الفظة التي جمعت الرئيس الأمريكي دونالد ترانب بالرئيس الأوكراني فلودومير زيلينسكي، الجمعة الماضي، تسيل الكثير من مداد التقارير السياسية والإعلامية في جميع بقاع العالم. حيث لم يعهد الرأي العام لقاء قمة بين زعيمي بلدين بهذا المستوى الذي كسر كل قواعد البروتوكول ونسف كل مبادئ الديبلوماسبة.

حتى من دون الحاجة لتحليل مضامين المشهد الذي نقل صورة من العصور الغابرة لأمراطور قوي في بلاطه بصدد توبيخ حاكم مقاطعة ضعيف. ظل زيلينسكي يتلقى الضربات تارة من ترامب وتارة من نائبه، وطرد شر طردة، متبوعا بعبارة صاحب البيت “دعه يرحل، وعندما يقرر التوقيع على الصفقة أعيدوه إلي”.

عن أي صفقة يتحدث ترامب؟

اشترطت الولايات المتحدة على أوكرانيا التنازل عن نصف مناجم المعادن الدقيقة في البلاد من أجل سداد ما بذمتها من ديون أمريكية تقدر ب 350 مليار دولار نتجت عن الحرب الروسية ضد أوكرانيا منذ عام 2022.

كما طالبت أمريكا الرئيس الأوكراني بوقف الحرب والاستسلام لروسيا والتنازل عن الأراضي التي احتلتها موسكو بالقوة وتقدر بأكثر من 20 في المائة من التراب الأوكراني.

وامتنعت واشنطن عن تقديم أي ضمانات أمنية أمريكية لكييف، تاركة مصير أوكرانيا الأمني للدول الأوروبية.

ماذا عن ردة الفعل الأوكرانية والأوروبية والروسية؟

أوكرانيا، التزم الرئيس زيلينسكي بضبط النفس، ولو أنه لم يبق له أي نفس، بعد كل الاتهامات والإهانات التي تلقاها من الرئيس ترامب، الذي اتهمه بالديكتاتور ويقود شعبه إلى الهلاك، ونعته بالمخبول، وطالبه بالتنحي.

لكن زيلينسكي صرح بعد أربعة أيام من لقاءه بترامب بأنه موافق على عقد الصفقة، وأنه “مستعد للعمل تحت القيادة القوية للرئيس ترامب”.

أوروبيا، شجب كافة القادة الأوروبيون الطريقة التي تعامل بها ترامب مع زيلينسكي، ولو أنهم لم يتجرأوا على قول ذلك بشكل علني، إلا أنهم عبروا عنه بالاستقبال البطولي الذي خصصوه لزلينسيكي في لندن. بينما أطلقت الصحافة الأوروبية نيرانها على الرئيس الأمريكي، متهمة إياه بالعجرفة وقلة الاحترام، وقالت “عوض أن يتعامل ترامب بحزم مع الجلاد (يقصدون الرئيس الروسي بوتين)، تعامل بقسوة مع الضحية”.

أما على الصعيد الروسي كان الاحتفال  واضحا بإهانة زيلينسكي في البيت الأبيض، وقالت الناطقة الرسمية بوزارة الخارجية الروسية ماريا زخاروفا “استغربنا في موسكو كيف ضبط السيد ترامب نفسه ولم يضرب زيلينسكي بسبب وقاحته”.

من جهته، ذهب الرئيس الروسي فلادمير بوتين إلى أبعد نقطة ممكنة في التقارب مع الولايات المتحدة وقال “إن أمريكأ يمكن لها الاستثمار في استغلال مناجم المعادن الدقيقة في روسيا، فلدينا كميات أكبر بكثير مما لدى أوكرانيا”.

إلى هنا بدأ يتضح كل شيء، فالتقارب الأمريكي الروسي صار أمرا واقعا، وليس من قبيل العبث أن تنشر الصحافة الأوروبية تقارير عن الانقلاب بزاوية 180 درجة الذي أحدثه ترامب في سياسة الولايات المتحدة تجاه أوروبا. حتى أن بعضهم كتب معلقا على قرارات ترامب المفاجئة بأن الولايات المتحدة تحت قيادته صارت عدوا للغرب.

ثمة مؤشرات باتت تؤكد أن ترامب يسير بخطى سريعة نحو إنهاء العمل بميثاق ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومن ذلك لجوءه إلى القرارات ذات الطابع الاقتصادي والمالي ضد دول الغرب الحليفة.

لكن هناك أمور أكبر من المسائل التجارية والجمركية يخفيها ترامب، مستعملا الجانب الاقتصادي كردار للتمويه. لقد وصف الاتحاد الأوروبي في وقت سابق بأنه “كيان عدو أنشئ من أجل التضليل والنيل من الولايات المتحدة”.

بالمقابل وفي تعليق له عن الرئيس الروسي بوتين قال ترامب “إنه شخص رائع تمكن من إنقاذ بلاده وأعاد بناء قوتها العسكرية”، بينما كان وصف رئيس الاتحاد السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف ب”الخائن الذي دمر بلاده”.

من الخطأ الاعتقاد أن الرئيس الأمريكي ترامب عبارة عن آلة إقتصادية بدون محرك سياسي، فالرجل يحمل مواقف سياسية تجاه أطراف بعينها قد لا يفصح عنها، ولكن تتسرب الكلمات أحيانا من تحت لسانه.

أعلن عن أهداف توسعية تبدو مستحيلة مثل ضم كندا وغريلاند واستعادة قناة بنما. ولكن عندما يتصرف بالطريقة التي تمكن روسيا من التوسع في أوكرانيا، ولا يبدي أي اهتمام لأوروبا فهو كمن يقول لروسيا توسعي في منطقة البلطيق وأمريكا ستتوسع في الشمال.

من جهة أخرى يظهر أن ترامب من القادة الذين يؤمنون بالقوة، ومن هذا المنطلق يتعامل مع أوروبأ بأنها عاجزة وضعيفة ولا تستطيع الدفاع عن نفسها، فلماذا تدافع عنها الولايات المتحدة؟

خلال استقباله لرئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر  وبينما كان ضيفه يقول له “إن أوروبأ ظلت دائما إلى جانب أمريكا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية”، قاطعه ترامب وسأله “هل تستطيع أوروبا مواجهة روسيا”، أجاب ستارمر “لا سيادة الرئيس”، فأردف ترامب قائلا “اصمت إذن”.

الصمت المطلوب من رئيس وزراء بريطانيا، هو أمر أمريكي يمحو بجرة قلم مضامين الميثاق السياسي بين أمريكا وأوروبا العائد تاريخه إلى مؤتمر انفا في الدارالبيضاء في المغرب عام 1944، الذي جمع الرئيس الأمريكي الأسبق روزفليت ورئيس الوزراء البريطاني تشرشل والزعيم الفرنسي دوغول.

في هذا المؤتمر  بالذات تم الاتفاق بين قادة امريكا وبريطانيا وفرنسا على وضع اليد في اليد للمضي قدما في بناء القوة الغربية وتقسيم نفوذ كل دولة فيها. وعلى إثره وضعت اللبنة الأولى لسياسة الغرب، تمهيدا للانتصار في الحرب وتقسيم العالم في مؤتمر لاحق عرف بمؤتمر يالطا في فبراير 1945 ضم الاتحاد السوفياتي وبريطانيا والولايات المتحدة (تم خلال هذا المؤتمر اقصاء فرنسا).

كأن التاريخ يعيد نفسه، لكن بأدوات جديدة ووجوه جديدة، ففي اجتماع روسي أمريكي على مستوى وزيري الخارجية الامريكي والروسي اجتمعا في الرياض في فبراير الماضي في غياب أوروبي تام تمت مناقشة المسألة الأوكرنية وجرى الحسم في ملفات رئيسية، تمهيدا للقاء القمة المرتقب بين ترامب وبوتين.

في خضم سياسة ترامب وفي حال استمرارها لا شك أن حلفاء الولايات المتحدة سيلقون المصير ذاته الذي واجهته أوكرانيا وتواجهه أوروبا، ودون شك ستواجهه تايوان وكوريا الجنوبية واليابان.

لن يدخل ترامب في حرب مسلحة مع الصين من أجل تايوان ولن يحرك اساطيل الولايات المتحدة لحماية الفلبين أو تغليب الهند على باكستان أو العكس. إنه بدأ بمسك السكين مع بوتين وعندما ينتهي من تقسيم الكعكة في أوروبا بدون حضور دولها، سيرى من الطرف الآخر المؤهل لحمل السكين معه في منطقة أخرى من العالم

التعليقات مغلقة.