الكتابة كفضاء للذاكرة، صوت الحنين ودوام الأثر
عبد العزيز كوكاس: يُوحي عنوان كتاب “الحي المحمدي، وجوه وأمكنة، محكيات وبورتريهات” بأننا أمام عمل يرتبط بذاكرة مكانية وإنسانية محددة، يتعلق الأمر بأحد الأحياء التاريخية في الدار البيضاء، المعروف بغناه السياسي والثقافي والفني والاجتماعي، وحضوره في الوجدان المغربي كفضاء شهد أحداثًا سياسية وفنية وثقافية ورياضية بارزة. نحن أمام فضاء جغرافي يحتضن كل حكي الكاتب، إنه شهادة أو توثيق لذاكرة المكان وأهله. فالحي المحمدي هنا ليس مجرد “بنيان عمراني” أو موقع طوبوغرافي، بل فضاء نابض بالحياة، غني بتاريخه وأحداثه وشخصياته. إنه “حي” حقا يحمل هوية اجتماعية وثقافية تميزه عن غيره من أحياء البيضاء، وتترك أثره مستمرا في الزمان الغائب في تركيبة العنوان، الذي جاء كجملة اسمية، يقول النحاة إنها تركز على مضمون الحالة أو الصفة دون تحديد وقت حدوثها. ويعتبر البلاغيون أن غياب الزمن الصريح في الجملة الاسمية يمنحها مرونة في التعبير عن الحقائق العامة أو الحالات المستمرة.
تثيرني في العنوان كلمة “حي” التي تحيل على معاني عديدة، منها:
-المجتمع السكني، أي مجموعة المنازل التي يسكنها الناس داخل المدينة. فهو يشير إلى وجود حياة اجتماعية وتفاعل بشري أو يشكل رمزًا لهوية ثقافية وتاريخية (مثل الحي المحمدي، الحي القديم، حي الفنون…).
-يحيل على الحياة، جاء في القرآن الكريم “يُخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي”، وهو من أسماء الله الحسنى “الحي”، الذي لا يموت أبدًا، وهو أصل الحياة ومنبعها، في الآية الكريم: “اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم” (البقرة 255).
-يحمل الحي دلالة ديناميكية، الحيوية والنشاط، ويُستخدم لوصف كل ما هو متجدد ومتفاعل، إنسان حي، خلايا حية، بركان حي… وكذلك على استمرار الحضور في الزمن: ذاكرة حية، لغة حية، فكرة حية.. أي أننا أمام وجوه وأمكنة مستمرة في الزمان وذات بعد ثابت، لقد انتصرت على الفناء، على الليس أو العدم بتعبير الكندي.
فما يتحدث عنه الكاتب هنا هو مكان حي ووجوه حية حتى وإن غادرنا بعضها، لا زال لديها أثر قوي للحضور… وهذا ما تتضمنه كلمة “وجوه” التي تحيل إلى الأشخاص الذين عاشوا في هذا الحي أو تركوا بصمة فيه.. رموز فنية وإبداعية وإعلامية (فنانين، كتاب، موسيقيين، صحافيين، سينمائيين…)، والكاتب واحد منهم يقوم بدور المؤرخ لذاكرة حي من خلال المكان ووجوهه البارزة ذات الأثر في مجالات عديدة. بالإضافة إلى السكان العاديين الذي يشكّلون نسيج الحياة اليومية للحي، ولا يحضرون إلا عبر أشهرهم ذكرا وأخلدهم أثرا.
اختيار مفردة “وجوه” بدلًا من “أشخاص” أو “أعلام” يُضفي طابعا بصريا وتشخيصيا على المحكي، كأن الكتاب يرسم صورا حيّة لأهل الحي، ويجعل القارئ يراهم أمامه من خلال الكلمات والصور المرفقة بالنص، في كتابه “الغرفة المضيئة” (La Chambre Claire)، يعالج بارت الحنين عبر التصوير الفوتوغرافي، حيث يرى أن الصور تحمل أثر الزمن الضائع وتستعيد لحظات غارقة في النسيان. هذه الفكرة يمكن إسقاطها على الكتابة أيضا، التي تعمل كصورة لغوية تستدعي الماضي.
فيما تشير كلمة “أمكنة” إلى البعد الطوبوغرافي والتاريخي للموقع، مما يدل على أن الكتاب لا يوثق فقط شخصيات، بل معالم، أزقة، ساحات، مؤسسات ثقافية أو تاريخية. من هنا التناغم بين “وجوه” و”أمكنة” عبر رصد العلاقة بين الإنسان والمكان، الذي لا معنى له دون أهله وساكنيه، فهو ليس مجرد أزقة وبلوكات وعمارات وشوارع بل ذاكرة حية تتجلى عبر وجوه من مرّوا به، والوجوه أيضا ترتبط بالمكان، تتشكل فيه وتعيد تشكيله عبر الزمن.
نحن أمام كتاب توثيقي/سيْري/سردي يتناول الحي المحمدي من زاوية الذاكرة الحية. يجمع بين القصص الشخصية والسياق العام للمكان، وباللغة الصحافية فإن حسن نرايس يرسم بروفايلات لشخصيات عبَرَت الحي، ويرسم بورتريها للحي المحمدي من خلال الوجوه المتميزة والشهيرة التي عبرته.
الكتابة كفضاء للذاكرة، صوت الحنين ودوام الاثر
يعد رولان بارت واحدًا من أبرز المنظرين الذين تناولوا الكتابة من زاوية الحنين. ضمن مفاهيم مثل اللذة النصية والرغبة في استعادة الماضي من خلال السرد. حين حديثه عن النص باعتباره أثراً للذاكرة، يرى بارت أن الكتابة ليست مجرد تسجيل للحاضر، بل هي استحضار دائم للغياب. أي أن النص المكتوب هو أثر لما لم يعد موجودًا، مما يجعله فضاءً لاستعادة الماضي بطريقة جديدة. محكومة بزمن الكتابة ثم بزمن التلقي. فنحن نحس في كتاب “الحي المحمدي: وجوه وأمكنة” ارتباطا وثيقا للحنين بالرغبة في استرجاع شيء مفقود، فالنص يولّد متعة ليس فقط عبر المحتوى، بل عبر الإحالات المستمرة إلى ما هو غير حاضر. يتحول الفعل الكتابي إلى وسيلة لاستعادة زمن داخلي، يرتبط بالشخصي والعاطفي، تماما كما يفعل الحنين. حيث تبدو اللغة كزمن مستعاد وتُنتج الكتابة زمناً خاصاً بها.
لا يتناول جاك دريدا الحنين بالطريقة التقليدية التي تستدعي الماضي بوصفه فردوسًا مفقودًا، لكنه يعيد التفكير فيه ضمن إطاره الفلسفي المتشابك مع الغياب، الأثر، والاختلاف. يمكن أن نفهم كتابة الحنين عند دريدا من خلال عدة مفاهيم رئيسية قعّد لها هذا المنظِّر التفكيكي مثل:
الحنين بوصفه أثراً (Trace)
يرى دريدا أن اللغة والتجربة الإنسانية قائمة على الأثر، أي أن كل كتابة تحمل بقايا ما لم يعد حاضرا بالكامل. هذا يشبه الحنين، حيث يكون الماضي حاضرا في غيابه، لكنه لا يعود أبدا كما كان. فالحي المحمدي اليوم كما عاشه حسن نرايس ومن تحدث عنهم لم يعد هو نفسه المكان الذي كان ولا أهله، إن كتابه عنه هو رسم لأثر، إنه محاولة ترميم ما تبقى من المكان، وما تبقى من أهله ومن القيم والعلاقات الاجتماعية التي ارتبطت به، إنه “أطلال”، رسم درس بسبب عوادي الزمن، واستعادته عبر اللغة هو مثل الوشم في ظاهر اليد، إعادة بناء الذاكرة ورسم الأثر، إن النص يستعيد لا وعي نصوص أخرى، والكاتب يعيد ذات دعوة امرئ القيس: “قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل”، وهذا يقودنا إلى البعد الثاني.
تفكيك الاستذكار: الحنين كغياب لا يُستعاد
ينتقد دريدا الفكرة الأفلاطونية والأرسطية عن التذكر والاسترجاع بوصفهما استعادة “نقية” للماضي. بالنسبة له، لا يمكن لأي نص أو ذكرى أن تكون استعادة وفية، بل هي دوماً إعادة تأويل، حيث يَحدث تأجيل وتفريق (différance) دائم يمنع أي تطابق بين الحاضر والماضي، حيث أن الكلمات والعلامات لا تعبر بشكل كامل ومباشر عما تعنيه، بل تُعرَّف دائما من خلال كلمات أخرى تختلف عنها، مما يؤدي إلى تأجيل مستمر للمعنى عبر سلسلة لا نهائية من العلامات. لذلك يحاول نرايس التغلب على ذلك بالاقتباس، بالاستشهاد بمقولات كتاب، وما أثارني هو ثلاثة استشهادات في بداية النص، تشيخوف الذي يقول: “أول علامات الشيخوخة، أن تتحول من إنسان يحلم إلى إنسان يتذكر” (ص 12)، هذا ما عناه دريدا بتفكيك الاستذكار، لماذا كتب نرايس “الحي المحمدي: وجوه وأمكنة”؟ كأثر للشيخوخة؟ للحنين؟ لإبراز وجه التحدي للخروج من الفقر المدقع إلى الثراء المعرفي والرمزي وإثبات الوجود، كتابة تريد أن تقول في لاوعيها: “على الرغم من… فإننا…”، على الرغم من البؤس والحرمان وكل أشكال الموت القهري، ها نحن أحياء، ليس فقط، بل وشمنا ذاتنا بطعم الخلود، أي الشهرة والنجومية وترك ما يدل علينا بعد العدم؟
يبرز الحنين في كتاب نرايس كغياب لا يستعاد، انصراف الزمن المعبر عنه لدى تشيخوف بالشيخوخة، التي هي مقدمة لاندثار الأثر وامحائه، يجعل الكتابة هنا بمثابة البحث عن عشبة الخلود كما لدى جلجامش.
وهذا ما عبر عنه الفيلسوف موريس ميرلوبونتي كما استشهد به الكاتب: “الذكريات لا توجد في الوعي ولا تُمثل شيئا قائم الذات، بل الوعي نفسه هو الذي يُكون الذكريات بطرحه الماضي من حيث هو ماضي”. (ًص 13)، الحنين في كتاب حسن نرايس ليس مجرد تذكر، بل هو شبحٌ يسكن النصوص ويعيد تشكيل الحاضر بطريقة غير مستقرة. وهذا ما يحيل عليه الاستشهاد الثالث في الكتاب لجان جاك روسو الذي يقول: “لا أرى بوضوح إلا ما تختزنه ذاكرتي… ولا أملك عقلا سليما إلا بذكرياتي”. (ص 14)
الكتابة كعملية حداد مستمرة
في كتابه “أذكار الموت” (Mémoires for Paul de Man)، يكتب دريدا عن فقدان صديقه بول دي مان، مشيرًا إلى أن كل كتابة هي نوع من الحداد، محاولة لتثبيت ما هو زائل. الكتابة الحنينية ليست استعادة، بل هي ممارسة لفقدٍ مستمر، حيث يكون الغياب حاضرًا أكثر من الحضور.
حيث يقوّض مفهوم الأصل النقي، سواء في اللغة أو الذاكرة، وبالتالي يضع الحنين في حالة تفكيك دائم. ما نشتاق إليه ليس كما نتصوره، لأن الأصل نفسه لم يكن ثابتًا أو متجانسًا، بل كان دائم التحول منذ البداية. من هنا فإن كتابة الحنين في كتاب “الحي المحمدي وجوه وأمكنة” ليست استعادة رومانسية، بل مواجهة مع الأثر والغياب. ليست نوستالجيا تقليدية، بل علاقة شبحية بالماضي. ليست يقينًا، بل تجربة تفكيكية حيث الذاكرة مشروطة بالاختلاف والتأجيل.
عن:الزمان