د.خالد فتحي: ما شهده المغرب مؤخرًا من إطلاق مشروع ضخم بمنطقة عامر في سلا، قد يبدو للوهلة الأولى مجرد ورش بنية تحتية جديد. لكنه في جوهره، يجسد رؤية متجددة في فلسفة الدولة لإدارة الأزمات، ويعكس تحولًا نوعيًا في تفكيرها الاستراتيجي لمواجهة واقع لم يعد فيه السؤال “هل ستقع الكوارث؟”، بل “متى ستقع؟ وماذا أعددنا لها؟”.
لقد كان زلزال الحوز، بكل ما حمله من مأساة وألم، ليس فقط فاجعة طبيعية حصدت الأرواح وخلفت الدمار، بل كان أيضًا اختبارًا حقيقيًا لقدرة المؤسسات المغربية على التدخل والتنسيق والتعافي. شكّل هذا الزلزال لحظة فارقة كشفت لنا مكامن قوتنا ومواطن ضعفنا، ونبهتنا إلى ضرورة التطوير المستمر في منظومة الاستجابة الوطنية. والأهم من ذلك، كان بمثابة “صدمة بناءة” عمّقت الوعي الجماعي لدينا بأن الاستعداد لمثل هذه الكوارث لا يمكن أن يظل مرهونًا بالارتجال أو بردود الفعل العفوية، مؤكدًا على حتمية بناء منظومة حصانة استباقية ومستدامة. كما أبرز الحاجة المُلحة إلى بنى تحتية لوجستية قادرة على ضمان وصول الدعم والموارد الحيوية بسرعة وكفاءة إلى المناطق المتضررة. من هنا، يتجلى مغزى تخصيص منصة متكاملة لكل جهة من جهات المملكة.
إن المشروع الذي دشنه جلالة الملك محمد السادس لا يُقاس فقط بعدد المستودعات أو بمساحتها بالهكتارات، ولا بمليارات الدراهم التي رُصدت له، بل بما يمثله من فلسفة عمل جديدة يريدها جلالته أن تكون نهجًا تنسج على منواله كافة مؤسسات الدولة سياساتها وتدخلاتها: الاستباق الممنهج بدل ردود الفعل المتأخرة، والتخطيط العلمي بدل الاعتماد على التمني والحماس العابر.
ويندرج هذا النهج الملكي في صميم ما دعا إليه ديننا الحنيف، فقد قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: “اعقلها وتوكل”، و “لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين”، وحثنا على الاستعداد بقوله: “استعدوا للبرد كما تستعدون للعدو”. إن هذه المنصات ليست مجرد مستودعات، بل هي شريان حيوي لشبكة أمان وطنية متكاملة.
في عالم متقلب الأحوال، متسارع التغيرات، يعج بالمخاطر، تشكل الكوارث الطبيعية والمناخية تهديدًا متصاعدًا حتى على أكثر الدول تقدمًا. فتغير المناخ لم يعد احتمالًا نظريًا، بل واقعًا يُترجم في فيضانات مفاجئة، وموجات جفاف متكررة، وحرائق مهولة، وحتى أوبئة عابرة للقارات. ولذا، فإن ما ينهجه المغرب اليوم، بقيادة جلالة الملك، هو تشييد جدار وقائي على مستوى كل جهة، جدار لا يتكون من الإسمنت فحسب، بل من التفكير الاستراتيجي العميق والجاهزية اللوجستية الشاملة.
واللافت في هذا البرنامج ليس ضخامته فحسب، بل تجاوزه لمفهوم “الإغاثة” التقليدية الظرفية. فنحن أمام تصور شامل يمتد من توفير الغذاء إلى ضمان الرعاية الصحية، ومن تأمين الإيواء إلى استدامة الطاقة والمياه، ومن الكفاءة اللوجستية إلى صون الكرامة الإنسانية. كل ذلك موجه نحو هدف واضح: ألا يُفاجأ المغاربة مجددًا، وألا يُترك أي متضرر وحيدًا في مواجهة المجهول.
كما يعكس هذا البرنامج إرادة راسخة لتعزيز السيادة الوطنية في زمن الأزمات. فوجود مخزون استراتيجي في كل جهة، وتطوير قدرات تصنيع محلية للمواد والتجهيزات الأساسية، يقللان من التبعية للخارج ويمنحان القرار الوطني مرونة أكبر واستقلالية أوسع في لحظات الشدة.
في المحصلة، لا يتعلق الأمر بمجرد بناء مستودعات، بل بصياغة سياسة عمومية متجددة لإدارة المخاطر، تضع الإنسان في صلب اهتماماتها. مشروع اليوم ليس فقط استجابة لتحديات الأمس، بل هو استثمار استراتيجي في أمان الغد، يعزز منعة الدولة والمجتمع على حد سواء.
ختامًا، إننا نشهد اليوم تبلور سياسة عمومية متجددة لإدارة المخاطر، سياسة تستثمر في بناء القدرات الوطنية وتضع المواطن في المقام الأول. هذا المشروع هو بحق استثمار استراتيجي في بناء مستقبل آمن ومستدام للأجيال القادمة.
ويمكن وضع هذا التحول المغربي النوعي في سياق أوسع، فهو ينسجم مع أفضل الممارسات الدولية للحد من مخاطر الكوارث. كما يعزز هذا التوجه موقع المغرب كفاعل مسؤول ورائد على الصعيدين الإقليمي والقاري، إذ يمكن لتجربته أن تشكل نموذجًا ملهمًا للعديد من الدول الساعية لتعزيز قدراتها في مواجهة التحديات المشتركة، لا سيما في إفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. إنها مبادرة لا تخدم المغرب فحسب، بل تساهم في بناء منظومة أمن جماعي إقليمية أكثر صلابة واستدامة، وتفتح آفاقًا واعدة للتعاون جنوب-جنوب في هذا المجال الحيوي والاستراتيجي.