د.خالد فتحي: في خطوة دبلوماسية استشرافية ذات دلالات جيواستراتيجية وانسانية ، أعلن الملك محمد السادس عن إعادة فتح سفارة المغرب في دمشق بعد قطيعة بين البلدين تجاوزت العقد. وهو قرارحكيم يتجاوز به ان يكون مجرد مجرد استئناف للعلاقات للتعبير عن رؤية مغربية عميقة للتحولات الإقليمية، والتأكيد من خلال إعطاء المثال على واجب التضامن العربي تجاه سوريا الشقيقة في مرحلة التعافي .
وغني عن القول انه مما يحسب للمغرب في هذا الإطار، حكمته ورصانته اللافتة التي ميزت دوما تعامله مع الملف السوري. فبينما شهدت السنتان الأخيرتان انفتاحًا متسارعًا من بعض الدول العربية تجاه النظام السابق في دمشق، لم يسارع المغرب على عكسها إلى إعادة هذه العلاقات . لم يكن ذلك تمهلا اعتباطيا منه ، بل أناة استراتيجية، لان المغرب كان يدرك تمامًا أن أي تقارب مع نظام منبوذ من شعبه لن يكون ذا أثر إيجابي حقيقي أو مستدام.
بهذا المعنى يكون التوقيت المغربي لإعادة العلاقات مدروسا بعناية، عاكسا لقراءة عميقة للواقع السوري، حتمت على الرباط انتظار تغيرات حقيقية في بنية الحكم تفتح الباب أمام علاقات بناءة تكون مع دولة تحترم شعبها وتطلعاته.
انه النهج المغربي القائم على المبادئ والمصالح الطويلة الأمد، وليس على ردود الفعل السريعة.
مما لاشك فيه ان تولي أحمد الشرع قيادة سوريا يمثل نقطة تحول محورية. فهذا التغيير، الذي يأتي بعد سنوات من الصراعات والفوضى الطاحنة ، يفتح الأبواب أمام سوريا ينتظر منها ان تكون أكثر انفتاحًا ومرونة.
هذا الطرح يزكيه بوضوح استقبال الرئيس الأمريكي ترامب للشرع، وما تلاه من رفع للعقوبات عن سوريا مما يعني عودة سوريا عربيا ودوليا . ان الدلائل كلها تشير الى ان دمشق سائرة بوثوق نحو استعادة موقعها الطبيعي ضمن المنظومة العربية والدولية.
بناءً على هذا التحول، يكون المغرب قد أرسل بانفتاحه المبكر رسالة واضحة: سوريا الحالية ليست امتدادًا للماضي، بل هي بداية جديدة لدولة تتطلع إلى طي صفحة الصراعات. وهذه هي الرؤية المغربية التي تدعم دائما استقرار الدول ووحدتها، و التي تلح في حالة سوريا على ضرورة مساهمة الأشقاء في عملية الإعمار، بعيدًا عن أي أجندات أيديولوجية.
لا يمكن لأحد أن يغفل حجم الدمار الذي لحق بسوريا. سنوات الحرب تركت البلاد محطمة اجتماعيًا، واقتصاديًا، ونفسيًا. واقع مأساوي يضع على عاتق الدول العربية، والمغرب في طليعتها، واجبًا أخلاقيًا وإنسانيًا.فالبلاد اليوم في أمس الحاجة إلى دعم عربي حقيقي لإعادة البناء، ليس فقط على المستوى المادي، بل لإعادة تأهيل الإنسان السوري وتضميد جراح المجتمع. هذا الدعم يجب أن يرتقي إلى مستوى “مشروع مارشال عربي” لسوريا؛ خطة شاملة وطويلة الأمد تستهدف إعادة الإعمار الاقتصادي، الدعم الاجتماعي، وإعادة الروح لهذا البلد العريق..
لطالما اتسمت علاقات النظام السوري السابق بالمغرب بالتوتر، خاصة لدعمه لجبهة “البوليساريو”. ومع التحول السياسي الراهن في دمشق، تتلاشى مؤشرات هذا العداء. بل على العكس، أصبح المنطق يدفع سوريا الجديدة إلى دعم قضية الصحراء المغربية بشكل لا لبس فيه.،ذلك ان دولة خرجت من سنوات عجاف هددت وحدتها تدرك تمامًا أهمية وسلامة أراضي الآخرين.
غني عن البيان ان التقارب المغربي-السوري ليس من ضرورات الحاضر فقط ، بل يستمد قوته من جذور تاريخية عميقة. فالتداخل الحضاري بين المغرب وبلاد الشام حقيقة ساطعة تجلّت في عصور مديدة، وتركت بصماتها في الإنجازات العظيمة كالأندلس، التي كانت ثمرة تلاقح ثقافي ساهم فيه المغرب وسوريا بأدوار محورية. هذه الروابط التاريخية والدماء المشتركة تشكل دافعًا إضافيًا لترسيخ علاقات قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.
وفي النهاية ،إن إعادة فتح السفارة المغربية في دمشق قرار سيادي محسوب يعكس وضوح الرؤية المغربية في التعامل مع التحولات الإقليمية. إنها رسالة للعالم العربي مفادها أن المغرب حاضر دائمًا عندما تلوح ملامح الاستقرار والنهوض، وأنه مستعد للعب أدوار بناءة في دعم السلام، وحدة الدول، ومكافحة التدخلات الأجنبية.