كثيرة هي الرسائل والتوجيهات التي سبق لجلالة الملك محمد السادس نصره الله أن وجّهها إلى نواب الأمة، الذين تنبثق عنهم الحكومة لتدبير شؤون المغاربة، من خلال خطب سامية في مناسبات متعددة، قصد تطبيقها على أرض الواقع والعمل على احترامها، طبقًا للأمانة الملقاة على عاتقهم، باعتبارهم ممثلي الشعب، وللقسم الذي يؤديه الوزراء والمسؤولون السامون بعد مثولهم أمام جلالة الملك، من أجل خدمة مصالح الشعب المغربي التواق إلى غدٍ أفضل، وتحقيق مطالبه المشروعة، حتى لا يفقد المواطن المغربي الثقة في المنتخبين والحكومة والمسؤولين، فيضطر إلى اللجوء مباشرة إلى جلالة الملك.
وما يعرفه المغرب منذ يوم 27 شتنبر 2025 إلى اليوم، من “حراك” لشباب “جين زد”، والشعارات التي يرفعونها ضد حكومة عزيز أخنوش، يؤكد ما سبق وأن خاطب به جلالة الملك، في خطابه السامي بتاريخ 13 أكتوبر 2017، بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية العاشرة للبرلمان، حيث قال حفظه الله:
“تأتي هذه الدورة بعد خطاب العرش (2017)، الذي وقفنا فيه على الصعوبات التي تواجه تطور النموذج التنموي، وعلى الاختلالات، سواء فيما يخص الإدارة بكل مستوياتها، أو في ما يتعلق بالمجالس المنتخبة والجماعات الترابية.
إلا أن إجراء هذه الوقفة النقدية، التي يقتضيها الوضع، ليس غاية في حد ذاته، ولا نهاية هذا المسار، وإنما هو بداية مرحلة حاسمة، تقوم على ربط المسؤولية بالمحاسبة، والعمل على إيجاد الأجوبة والحلول الملائمة للإشكالات والقضايا الملحّة للمواطنين.
إننا لا نقوم بالنقد من أجل النقد، ثم نترك الأمور على حالها، وإنما نريد معالجة الأوضاع، وتصحيح الأخطاء، وتقويم الاختلالات.
إننا نؤسس لمقاربة ناجعة، ولمسيرة من نوع جديد. فما نقوم به يدخل في صميم صلاحياتنا الدستورية، وتجسيد لإرادتنا القوية في المضيّ قُدمًا في عملية الإصلاح، وإعطاء العبرة لكل من يتحمل مسؤولية تدبير الشأن العام.
وبصفتنا الضامن لدولة القانون، والساهر على احترامه، وأول من يطبّقه، فإننا لم نتردد يومًا في محاسبة كل من ثبت في حقه أي تقصير في القيام بمسؤوليته المهنية أو الوطنية.
ولكن الوضع اليوم أصبح يفرض المزيد من الصرامة، للقطع مع التهاون والتلاعب بمصالح المواطنين.
إن المشاكل معروفة، والأولويات واضحة، ولا نحتاج إلى المزيد من التشخيصات، بل هناك تضخم في هذا المجال.
وقد وقفنا أكثر من مرة على حقيقة الأوضاع، وعلى حجم الاختلالات التي يعرفها جميع المغاربة.
أليس المطلوب هو التنفيذ الجيد للمشاريع التنموية المبرمجة، التي تم إطلاقها، ثم إيجاد حلول عملية وقابلة للتطبيق للمشاكل الحقيقية والمطالب المعقولة والتطلعات المشروعة للمواطنين في التنمية والتعليم والصحة والشغل وغيرها؟“
وأضاف جلالته في الخطاب نفسه: “إن التقدم الذي يعرفه المغرب لا يشمل مع الأسف كل المواطنين، وخاصة شبابنا الذي يمثل أكثر من ثلث السكان، والذي نخصه بكامل اهتمامنا ورعايتنا.
فتأهيل الشباب المغربي وانخراطه الإيجابي والفعّال في الحياة الوطنية يعدّ من أهم التحديات التي يتعين رفعها. وقد أكدنا أكثر من مرة، ولا سيما في خطاب 20 غشت 2012، بأن الشباب هو ثروتنا الحقيقية، ويجب اعتباره محركًا للتنمية وليس عائقًا أمام تحقيقها.
والواقع أن التغيرات المجتمعية التي يشهدها المغرب قد أفرزت انبثاق الشباب كفاعل جديد له وزنه وتأثيره الكبير في الحياة الوطنية.
ورغم الجهود المبذولة، فإن وضعية شبابنا لا ترضينا ولا ترضيهم، فالعديد منهم يعانون من الإقصاء والبطالة، ومن عدم استكمال دراستهم، وأحيانًا من صعوبة الولوج إلى الخدمات الاجتماعية الأساسية.
كما أن منظومة التربية والتكوين لا تؤدي دورها في التأهيل والإدماج الاجتماعي والاقتصادي للشباب.
أما السياسات العمومية القطاعية والاجتماعية، فرغم أنها تخصص مجالًا هامًا للشباب، إلا أن تأثيرها على أوضاعهم يبقى محدودًا لضعف النجاعة والتناسق فيما بينها، وعدم ملاءمة البرامج لجميع الشرائح الشبابية.
واعتبارًا للارتباط الوثيق بين قضايا الشباب وإشكالية النمو والاستثمار والتشغيل، فإن معالجة أوضاعهم تحتاج إلى ابتكار مبادرات ومشاريع ملموسة تحرر طاقاتهم وتوفر لهم الشغل والدخل القار وتضمن لهم الاستقرار وتمكّنهم من المساهمة البنّاءة في تنمية الوطن.”
وببصيرته الثاقبة، أشار جلالته إلى وضعية الشباب العاملين في القطاع غير المهيكل، والتي تقتضي إيجاد حلول واقعية قد لا تتطلب وسائل مادية كبيرة، لكنها ستوفر لهم فضاءات وآليات للعمل في إطار القانون، بما يعود بالنفع عليهم وعلى المجتمع.
كما دعا، على غرار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، إلى بلورة سياسة جديدة مندمجة للشباب، تقوم أساسًا على التكوين والتشغيل، وقادرة على إيجاد حلول واقعية لمشاكلهم الحقيقية، خاصة في المناطق القروية والأحياء الهامشية والفقيرة.
ولضمان شروط النجاعة والنجاح لهذه السياسة الجديدة، دعا جلالته إلى استلهام مقتضيات الدستور، وإعطاء الكلمة للشباب، والانفتاح على مختلف التيارات الفكرية، والاستفادة من التقارير والدراسات التي أمر بإعدادها، ولا سيما حول “الثروة الإجمالية للمغرب” و”رؤية 2030 للتربية والتكوين”، وغيرها.
وفي أفق بلورة هذه السياسة، دعا إلى الإسراع بإقامة المجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي كمؤسسة دستورية للنقاش وإبداء الرأي وتتبع وضعية الشباب.
وأكد جلالته أن الاختلالات التي يعاني منها تدبير الشأن العام ليست قدرًا محتومًا، وأن تجاوزها ليس أمرًا مستحيلًا، إذا توفرت الإرادة الصادقة وحسن استثمار الوسائل المتاحة، معتبرًا أن ذلك من اختصاص البرلمان والحكومة والمنتخبين، الذين هم مسؤولون أمام الله، وأمام الشعب، وأمام الملك عن الوضع الذي تعرفه البلاد. ودعاهم إلى الانخراط في الجهود الوطنية بكل صدق ومسؤولية، بعيدًا عن أي اعتبارات سياسوية أو حزبية، لأن الوطن للجميع، ومن حق كل المغاربة أن يستفيدوا من التقدم ومن ثمار النمو.
ورغم أن هذا الخطاب السامي يعود إلى ثمان سنوات مضت، خلال فترة حكومة سعد الدين العثماني المنتمية إلى حزب العدالة والتنمية، وفي خضم “حراك الريف”، فإنه كان توجيهًا واضحًا لإصلاح ما يمكن إصلاحه. ومن المفارقات أن مضامينه تنطبق اليوم تمامًا على حكومة عزيز أخنوش، رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار، مع اختلاف السياق، حيث أصبحنا أمام “حراك شباب جيل زد”!.
ويبقى السؤال المطروح: هل سيعلن جلالته، في الخطاب الملكي السامي الذي سيلقيه يوم الجمعة المقبل 10 أكتوبر 2025، بمناسبة افتتاح دورة أكتوبر البرلمانية، عن مفاجآت؟، أم سيكون خطاب “نجبيد الودنين” لحكومة أخنوش، ولنواب الأمة، الذين لم يقدموا شيئًا يُذكر لمحاورة شباب “زد”، حينما خرجوا إلى الشارع في هذه الفترة الحساسة التي يعيشها المغرب، مطالبين بالتحكيم الملكي!، بعدما فقدوا – حسب تعبيرهم – الثقة في الحكومة والبرلمان والمنتخبين ككل؟
وفي انتظار ذلك، يبقى الأمل قائمًا في أن يحفظ الله وطننا العزيز، ويعمّ الأمن والاستقرار، ويتمسك شبابنا بشعارهم الخالد: الله، الوطن، الملك.
ح.أ