منذ اعتلائه عرش أسلافه المنعمين، جعل جلالة الملك محمد السادس العدالة الاجتماعية في صلب أولوياته الكبرى، واضعًا الإنسان المغربي في قلب المشروع التنموي الوطني. فقد جاب جلالته مختلف الأقاليم والجهات، وزار القرى والحواضر، والجبال والسهول والصحارى، ووقف بنفسه على أحوال المواطنين، مطلقًا مبادرات ومشاريع استثمارية واجتماعية تستجيب لحاجاتهم الواقعية، وفي مقدمتها المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي شكلت ثورة اجتماعية لمحاربة الفقر والهشاشة، إلى جانب المشاريع الصحية والتعليمية والبنيات التحتية، وكل الأوراش الاستراتيجية التي تخدم الوطن والمواطن على حد سواء.
ورغم هذا المسار الإصلاحي الطموح، ما تزال بعض الممارسات السياسية تُشكل عائقًا أمام تحقيق الأهداف الملكية، إذ يسعى بعض عديمي الضمير إلى استغلال فقر المواطنين كورقة ضغط انتخابية، بغرض كسب المقاعد والمناصب وخدمة المصالح الشخصية. وهي تصرفات لا تتماشى وروح التوجيهات الملكية التي تُلزم الفاعلين السياسيين بتحمل المسؤولية الوطنية والنزاهة في خدمة الصالح العام.
وجاء الخطاب الملكي أمام البرلمان خلال افتتاح الدورة الخامسة من الولاية التشريعية ليضع النقاط على الحروف، متزامنًا مع ارتفاع مطالب شباب “جيل زد”، الذي يطالب بالإصلاح في مجالات الصحة والتعليم والتشغيل، ويعبّر عن وعي سياسي واجتماعي متزايد عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وقد اختار جلالته أن يخاطب الجميع — من حكومة وبرلمان ومؤسسات إعلامية — بلغة الضمير والمسؤولية، مؤكدًا أن خدمة الوطن ليست شعارًا انتخابيًا، بل التزام أخلاقي أمام الله والوطن والملك.
واستشهد جلالته في ختام خطابه بالآية الكريمة: “فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره”،
في إشارة بليغة تحمل دلالات أخلاقية وروحية وسياسية عميقة، تُذكر الجميع بأن العدالة الإلهية لا تغيب، وأن المسؤولية تظل قائمة في الدنيا والآخرة.
ولم يخرج جلالته في خطابه السامي عن القواعد الدستورية، بل أعاد التذكير بما ورد في خطاب العرش الأخير حين قال:
“لقد عملنا، منذ اعتلائنا العرش، على بناء مغرب متقدم، موحد ومتضامن، من خلال النهوض بالتنمية الاقتصادية والبشرية الشاملة، مع الحرص على تعزيز مكانته ضمن نادي الدول الصاعدة… فما حققته بلادنا لم يكن وليد الصدفة، وإنما هو نتيجة رؤية بعيدة المدى وصواب الاختيارات التنموية الكبرى، والأمن والاستقرار السياسي والمؤسسي الذي ينعم به المغرب.”
وأكد جلالته أيضًا أنه لن يكون راضيًا مهما بلغ مستوى التنمية الاقتصادية، إن لم تنعكس بشكل ملموس على تحسين ظروف عيش المواطنين، محذرًا من استمرار مظاهر الفقر والهشاشة في بعض المناطق، ولاسيما في العالم القروي، ومؤكدًا أنه “لا مكان اليوم ولا غدًا لمغرب يسير بسرعتين”.
وفي هذا الإطار، وجّه جلالته نداء صريحًا إلى الحكومة والبرلمان، باعتبار هذه السنة التشريعية الأخيرة في ولايتهما، داعيًا إلى العمل الجاد والمسؤول، واستكمال المشاريع المفتوحة، وتنزيل المخططات الاجتماعية، بروح الوطنية والالتزام. كما شدد على ضرورة تأطير المواطنين والتعريف بالمبادرات العمومية والقوانين التي تمس حياتهم اليومية وحقوقهم الأساسية، معتبرًا أن هذه المسؤولية ليست حكرًا على الحكومة، بل تشمل البرلمان والأحزاب السياسية والمنتخبين ووسائل الإعلام والمجتمع المدني.
بهذا الخطاب الجامع، منح جلالة الملك فرصة جديدة للمؤسسات المنتخبة لإعادة ترتيب أولوياتها، في زمن يعرف تحولات عميقة يقودها جيل جديد من المغاربة، جيل يطالب بالشفافية والعدالة، ويراقب أداء المسؤولين عبر الوسائط الحديثة. فالاستشهاد بالآية القرآنية لم يكن مجرد خاتمة رمزية، بل نداء إلى الضمير الجمعي للأمة، يؤكد أن الرقابة الحقيقية تبدأ من الذات، وأن خدمة الوطن أمانة ومسؤولية أمام الله والتاريخ.
إن الخطاب الملكي أمام البرلمان لم يكن مجرد توجيه سياسي، بل كان دعوة صريحة إلى الإصلاح الأخلاقي قبل الإداري، وإلى اليقظة الوطنية قبل الحسابات الحزبية. فهو خطاب يذكّر المغاربة جميعًا بأن طريق التنمية الحقيقية يبدأ من الإخلاص في العمل، وأن العدالة الإلهية لا تغيب، لأن من “يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره”.