يشكل ملف الصحراء المغربية أحد أبرز القضايا التي أثرت ولا تزال تؤثر بعمق في توازنات السلطة داخل الجزائر، إذ لم يعد هذا الملف مجرد قضية خارجية أو مسألة تضامن مزعوم مع “البوليساريو” اكما تروج له الدعاية الرسمية، بل تحول إلى محور خلاف داخلي بين مراكز القرار في البلاد، وصراع بين التيارات المتباينة داخل المؤسسة العسكرية، وبين الشعب الجزائري الذي بدأ يتساءل عن جدوى استمرار العداء مع المغرب، وعن الثمن السياسي والاقتصادي الذي تدفعه الجزائر بسبب تمسكها بموقفها المتصلب التي فاقت تكلفته حوالي “بليون دولار” من أموال الشعب..
وهذه الورطة كان سببها منذ سبعينيات القرن الماضي، المقبورمعمر القذافي الذي غرر بـ”بوخربة ” هواري بومدين، لتبني دعم جبهة “البوليساريو” كخيار استراتيجي يهدف إلى إضعاف المغرب وإبعاده عن ممارسة دوره الإقليمي الطبيعي، غير أن هذا الموقف، تراجع عنه القذافي قبل مماته، وخلف وراءه “جنرالات الجزائر” متورطة مع سكان مخيمات تيندوف، للدفاع عن “النيف” كما يقولون لعقود خلت.
لكن الوضع الان تغير على جميع المستويات داخل الدوائر العسكرية الجزائرية، سواء من خلال الصراع بين الجيل الجديد من الجنرالات والموالون لشنقريحة الذي اصبح قاب قوسين اوادنى من تفجير”الرمانة” بعد فرار “الجن” الى الخارج محملا ملفات الفساد تتعلق بتهريب أموال الشعب الجزائري الى الخارج، وما يطبخ في الخفاء ضد عبد العزيز تبون وضده من طرف “شباب زد 213” الذي يتزعمه بعض الجنرالات الذين ظهروا على الساحة كمساندين للرئيس ومن في حكمه، لكن في الخفاء يهيئون الأرضية لازاحة شنقريحة.
اما على المستوى السياسة الخارجية، وملف “البوليساريو” الذي اصبح عبءا على من يريد التغيير في الجزائر، فقد ظهرت التغيرات الجيوسياسية في المنطقة، من خلال اعتراف قوى دولية مؤثرة بمغربية الصحراء، حيث بدأت الأصوات داخل الجزائر تتعالى للمطالبة بمراجعة السياسة الخارجية وإعادة النظر في أولويات البلاد قبل “السراب” الذي انهك الاقتصاد الجزائري وتسبب له في عداوات مع شركائها، فقد ظهر الانقسام واضحاً بين جناحين: الأول، يمثله التيار المحافظ داخل المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية، وهو التيار الذي يرى في استمرار دعم “البوليساريو” جزءاً من العقيدة الدبلوماسية للجزائر للحفاظ على ابراز وجود النظام. أما الجناح الثاني، الذي يضم بعض الشخصيات المدنية والاقتصادية، فيدعو إلى الانفتاح على المغرب وإنهاء الصراع، باعتباره عبئاً مالياً وسياسياً على الدولة، ويعرقل التكامل المغاربي ويغذي العزلة الدبلوماسية.
إلى جانب الصراع بين النخب، بات ملف الصحراء المغربية أحد مواضيع النقاش الشعبي في الجزائر، خصوصاً مع تزايد الضغوط الاقتصادية وغلاء المعيشة، فالكثير من الجزائريين يرون أن الأموال التي تُصرف على دعم “البوليساريو” وعلى الحملات الدبلوماسية في المحافل الدولية، كان الأولى أن تُوجه لتحسين أوضاع المواطن البسيط، وتطوير البنية التحتية والخدمات داخل البلاد.
كما أن استمرار التوتر مع المغرب انعكس سلباً على السياسة الداخلية للجزائر، من خلال توظيف السلطة لهذا الملف لتوحيد الصفوف داخلياً وإخماد أي صوت معارض، تحت ذريعة “الخطر الخارجي” و”الدفاع عن السيادة الوطنية”، حيث استُخدم خطاب “الصحراء” لتبرير تشديد القبضة الأمنية، وقمع الحركات الاحتجاجية، وإغلاق الفضاء السياسي والإعلامي. غير أن هذه السياسة بدأت تفقد فعاليتها، بعد أن اتضح أن الأزمة السياسية والاقتصادية في الجزائر لا ترتبط بالعلاقات مع الجوار بقدر ما ترتبط بطبيعة النظام نفسه.
إن الصراع حول ملف الصحراء المغربية، أصبح اليوم مؤشراً على الصراع الأوسع حول مستقبل الجزائر واتجاهها السياسي. فبين من يريد الحفاظ على “النهج القديم” القائم على العداء للمغرب، ومن يطمح إلى سياسة واقعية قائمة على المصالح المشتركة والاندماج الإقليمي، تتحدد ملامح المرحلة المقبلة.
وإذا استمرت الجزائر في تجاهل التحولات الإقليمية والدولية، فقد تجد نفسها معزولة أكثر، ويزداد الانقسام داخلها حدة، خصوصاً مع تراجع الثقة الشعبية في مؤسسات الدولة وازدياد الوعي بضرورة التغيير ، فمراجعة الموقف من قضية الصحراء المغربية لا تعني فقط تصحيح خطأ سياسي تاريخي، بل تمثل فرصة حقيقية لإعادة بناء السياسة الخارجية الجزائرية على أسس واقعية، تضع مصلحة الشعب الجزائري فوق الحسابات الإيديولوجية القديمة.