مراسلات علال الفاسي.. سيرة وطني ووطن | حدث كم

مراسلات علال الفاسي.. سيرة وطني ووطن

0
27/10/2025

د .خالد فتحي: أصدرت مؤسسة علال الفاسي منذ شهرين الجزء الثالث من مراسلات الزعيم علال الفاسي بعد الجزأين الأول والثاني. يقع هذا الجزء في ما يقارب ستمائة صفحة، وقد نقحه وقدمه الأستاذ المختار باقة، الذي واصل بهذا العمل جهده في توثيق تراث هذا المفكر والمناضل الذي وهب عمره وفكره لقضية استقلال المغرب وكرامة أبنائه.

تعكس هذه الرسائل جانبا أساسيا من السيرة النضالية والسياسية والدبلوماسية لعلال الفاسي، وهي من الثراء بحيث لو أضيفت إلى الجزأين السابقين لأمكن أن تكون مادةمكتملة لإنجاز عمل سينمائي ضخم يستعيد سيرة هذا الرجل الاستثنائي ، الذي كان الفكر عنده وسيلة للتحرر، والقلم جسرًا بين الفكرة والعمل،بالبناء على رسائله فقط .

المقدمة التي دبجها الأستاذ باقة جاءت ملخصا تركيبيًا شافيا ، لخصت ملامح الكتاب وأضاءت  طريق القارئ المستعجل، لكنها لا تغني عن قراءة النصوص  العلالية نفسها، لأن كتابات علال الفاسي — سواء في مؤلفاته أو مراسلاته — تظل دائمًا قابلة لاختلاف القراءات، متجددة الدلالات كلما استحضرناها في ضوء واقعنا الراهن، واستدعيناها لإضاءة أسئلتنا الكبرى.

كل رسالة في هذا الكتاب تستحق أن تقرأ بروية وتأمل، غير أن عجلة الحياة واعباءها ، لا تسمح لنا إلا بمسحٍ إجمالي نعرف مسبقا أنه  لا يخلو من تقصير. ومع ذلك، فإن تصفح هذه الرسائل يكفي ليشعر القارئ أنه أمام رجل مبارك الفكر والفعل، واسع الأفق، متقد البصيرة، عاش لقضيته ومات واقفًا في محراب الوطن.

يقف القارئ في الفصل الأول على حوارٍ ممتد بين الزعيم علال الفاسي الوطني والفقيه المناضل   وملوك البلاد، من محمد الخامس إلى الحسن الثاني، وهو حوار بين فكرٍ ناصح وعرشٍ مناضل من أجل الحرية.

من رسالة 1934 التي التمس فيها الإذن بالعودة إلى فاس لاستئناف دراسته، إلى المذكرات السياسية في الستينيات والسبعينيات حول التعليم، وتندوف، والشؤون الإسلامية، نجد أنفسنا أمام مثقف عضوي مؤمنٍ بالحوار البناء، يقدم مقترحات عملية لإصلاح التعليم، وتعريب الإدارة، وتنظيم الحقل الديني، وبناء الدولة الحديثة.

إنها مراسلات تكشف عن عمق العلاقة بين الفكر والسلطة في التجربة المغربية، علاقة تقوم على النصيحة والولاء المشروط بالمصلحة العليا للوطن.

أما الفصل الثاني، فيحملنا إلى البعد العربي والقومي  في فكر الزعيم، من خلال مراسلاته مع الأمين العام لجامعة الدول العربية ومسؤوليها ما بين 1948 و1954.

في هذه الرسائل، يتبدى علال الفاسي صوتا عربيا صادقا يدافع عن استقلال المغرب في المحافل الدولية، ويوازي بين القضية المغربية والفلسطينية، معتبرًا أن لا حرية لوطن بمعزل عن حرية الأمة كلها.

من بين هذه الوثائق رسائل موجهة إلى عبد الرحمان عزام باشا ولجان الجامعة العربية، تتناول عرض القضية المغربية على الأمم المتحدة، والدفاع عن محمد الخامس في وجه الحملات الفرنسية، وتوضيح معاناة الطلبة والمعتقلين الوطنيين.

إنه فصل يختصر حلم الوحدة العربية كما عاشه جيل النضال الأول، بحماسة الإيمان وصفاء النية.

وفي الفصل الثالث،يتبدى لنا الزعيم الدبلوماسي الذي كانه علال ،والذي كان بنافح في كل الاتجاهات، حيث تتسع الدائرة لتشمل الملوك والرؤساء والسفراء وشخصيات الفكر والدين في العالم. هنا يبرز علال الفاسي كـ دبلوماسي بالفطرة، يجيد مخاطبة العقول والضمائر على السواء.

فنقرأ رسائله إلى بابا الفاتيكان يستنكر فيها وحشية الاستعمار الفرنسي، وإلى وزير خارجية سوريا يشيد بدور بلاده في نصرة المغرب، وإلى زعماء الهند والعراق ومصر يشرح فيها معاناة شعبه وآماله.

وفي كل رسالة نلمح نبرة العالم المؤمن بعدالة قضيته، وبلاغة السياسي الذي يعرف متى يلين الخطاب ومتى يشتد. إنها مراسلات تكشف عن الوجه الإنساني للسياسة حين تلتقي بالفكر والضمير.

أما الفصل الرابع، فيرصد تفاعل الزعيم مع الشأن الوطني بعد الاستقلال، من خلال مراسلاته إلى الوزراء والمسؤولين المغاربة.

تتوزع موضوعاتها بين إصلاح التعليم الأصيل، وتنظيم القضاء، والدفاع عن الحدود الوطنية. وهي رسائل تنضح بالحسّ الوطني والمسؤولية الأخلاقية، وتدل على أن علال الفاسي لم يعرف للراحة طريقًا، بل ظل يكتب وينصح ويقترح إلى آخر أيامه.

من خلال هذه الرسائل بالخصوص ، يبرز مبدأ جوهري في فكره: أن الاستقلال ليس غاية في حد ذاته، بل وسيلة لبناء الإنسان المغربي الحر المتعلم.

يختتم الكتاب بملحق نفيس من الخطب والبيانات، منها خطبه في وادي المخازن، وبياناته في مرحلة المقاومة ضد ابن عرفة، ووثائق سياسية تعود إلى مؤتمرات الكتلة الوطنية.

هذه النصوص تشكل الذاكرة الحية لمغرب كان يصنع تاريخه بدماء رجاله وأقلام علمائه. وهي تؤكد أن علال الفاسي لم يكن صوتا فرد، بل لسان أمة آمنت أن التحرر لا يكتمل إلا حين يتحرر العقل.

  ان هذا الجزء الثالث من مراسلات الزعيم علال الفاسي ليبدو لي ،وانا أجاهد للإطلاع على نفائسه ودرره كما لو أنه سفر في الذاكرة الوطنية، يلتقي فيه التاريخ بالفكر، والسياسة بالأخلاق، والإنسان بالوطن.

إنه أكثر من كتاب في المراسلات؛ إنه وثيقة حياة، وسيرة نضالية، ونبض رجل عاش من أجل أن يكون للمغرب صوته الحر بين الأمم.

بين سطور هذه الرسائل، يتجلّى الدرس الأكبر الذي تركه لنا الزعيم الخالد :  الوطنية ليست شعارا، بل عمل يومي وصبر طويل، وإيمان لا يلين بالحق والحرية.

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.