شهدت سنة 2024 دينامية إصلاحية متميزة في مسار ورش إصلاح منظومة العدالة بالمملكة المغربية، شكّلت منعطفاً حاسماً في استكمال البناء المؤسساتي للسلطة القضائية وتعزيز استقلالها. فقد واصل المجلس الأعلى للسلطة القضائية، باعتباره الضامن لاستقلال السلطة القضائية والساهر على حسن سيرها، تنفيذ مخططه الاستراتيجي للفترة 2021-2026، الذي يتضمن 163 إجراءً موزعة على سبعة توجهات كبرى، من أبرزها ترسيخ استقلال القضاء، وتخليق المرفق القضائي، وتعزيز الحكامة في التدبير، وتحسين الوضعية الاجتماعية والاقتصادية للقضاة، ورفع كفاءة المؤسسات القضائية في أداء مهامها.
خلال هذا العام، عزز المجلس الأعلى للسلطة القضائية مكانته كفاعل استراتيجي في الإشراف على تدبير المنظومة القضائية وضمان استقلاليتها، من خلال مجموعة من المبادرات التشريعية والتنظيمية والإدارية التي مكنت من إرساء قواعد حكامة مؤسساتية جديدة، وتطوير آليات العمل الداخلي للمجلس بما يواكب التحولات الكبرى التي تعرفها العدالة المغربية. وقد حرص المجلس، وفقاً لمقتضيات الدستور والقوانين التنظيمية ذات الصلة، على المزاوجة بين الإصلاح القانوني والتحديث الإداري، بما يضمن التوازن بين الاستقلال والنجاعة، ويعزز ثقة المواطن في القضاء.
وكان من أبرز هذه الإصلاحات صدور النظام الداخلي الجديد للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، الذي اعتُبر محطة محورية في تحديث البنية التنظيمية للمجلس وتجويد عمله. فقد تضمن هذا النظام تعديلات جوهرية همّت مساطر التأديب وتحديد اختصاصات لجنة الأخلاقيات، وتدقيق شروط تعيين المسؤولين القضائيين، وتطوير نظام تقييم الأداء، إلى جانب إرساء هيكلة إدارية أكثر مرونة وكفاءة. وقد صادقت المحكمة الدستورية في يناير 2024 على مطابقة هذا النظام لأحكام الدستور، مما أكسبه بعداً مؤسساتياً راسخاً وجعل منه إطاراً حديثاً للحكامة القضائية.
وفي موازاة الإصلاح القانوني، عمل المجلس على تفعيل مقتضيات القانون رقم 37.22 المتعلق بالمعهد العالي للقضاء، من خلال إعداد النصوص التنظيمية الأساسية التي تؤطر تكوين الملحقين القضائيين وتنظيم امتحانات التخرج والنظام الداخلي للمعهد وهيكلته الإدارية. هذه الخطوة جاءت لتؤكد توجه المجلس نحو تحديث منظومة التكوين القضائي وضمان تأهيل القضاة الجدد وفق معايير الكفاءة والاستقلالية والمسؤولية، انسجاماً مع متطلبات العدالة الحديثة.
كما شمل الإصلاح الجانب الاجتماعي والاقتصادي للقضاة، في إطار مقاربة شمولية تهدف إلى تحقيق التمكين الاجتماعي وتعزيز الكرامة المهنية. وفي هذا السياق، تم إصدار المرسوم رقم 2.24.485 في أكتوبر 2024، الذي نص على مراجعة التعويضات الخاصة بالمسؤولين القضائيين ورؤساء الغرف بمحكمة النقض، مراعاة لجسامة المسؤوليات الملقاة على عاتقهم، إلى جانب الرفع من تعويضات الملحقين القضائيين التي ظلت مجمدة منذ سنة 2004، مما شكل استجابة عملية لمطلب طال انتظاره داخل الجسم القضائي، وأكد عناية المجلس بالفئات الصاعدة في السلك القضائي.
وعلى صعيد الحكامة والتنسيق المؤسساتي، واصل المجلس الأعلى للسلطة القضائية تعميق التعاون مع وزارة العدل ورئاسة النيابة العامة في مجال الإدارة القضائية، في احترام تام لمبدأ فصل السلط واستقلال القضاء المنصوص عليه في الفصل الأول من الدستور. وتم تفعيل الهيئة المشتركة المنصوص عليها في المادة 54 من القانون التنظيمي رقم 100.13، التي تضم الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية والوزير المكلف بالعدل والوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، إلى جانب الأمين العام للمجلس والكاتب العام لوزارة العدل. وقد شهدت هذه الهيئة نشاطاً مكثفاً خلال سنة 2024، من خلال اجتماعات لجنة التوجيه التي رسمت السياسات العامة للهيئة وأطلقت مشاريع استراتيجية، مثل مراجعة الخريطة القضائية وإحداث محاكم جديدة وتنزيل البرامج الرقمية بالمحاكم، فضلاً عن اجتماعات لجنة التتبع التي واكبت تنفيذ هذه المشاريع، خصوصاً في ما يتعلق بتأهيل البنية التحتية للمحاكم وبناء محكمة النقض الجديدة وتطوير خدمات قضاء الأسرة وتعميم الرقمنة في المساطر.
كما عرف العام نفسه دينامية ميدانية قوية تمثلت في تدشين مقرات قضائية جديدة بكل من العيون وطنجة وبيوكرى وأكادير، مما يعكس التزام المجلس ووزارة العدل برفع جودة المرافق القضائية وتوفير بيئة ملائمة للقضاة والمرتفقين. كما تم تعزيز برامج التواصل والانفتاح عبر تنظيم أبواب مفتوحة بالمحاكم لتعريف المواطنين بخدمات العدالة وآلياتها، تأكيداً على نهج الشفافية والانفتاح.
وفي الجانب التشريعي، واصل المجلس الأعلى للسلطة القضائية أداء دوره كقوة اقتراحية فاعلة في ميدان التشريع، من خلال إبداء الرأي في مشاريع ومقترحات القوانين المرتبطة بالعدالة، وفقاً لمقتضيات المادة 112 من القانون التنظيمي رقم 100.13. وقد عرف عدد النصوص المحالة على المجلس ارتفاعاً ملحوظاً خلال الفترة 2022-2024، ما يعكس الثقة في خبرة هذه المؤسسة ودورها في تجويد النصوص القانونية وضمان انسجامها مع المبادئ الدستورية.
وحسب الإحصائيات الرسمية، فقد بلغ مجموع المشاريع التي أبدى المجلس رأيه فيها ما مجموعه 43 مشروعاً خلال السنوات الثلاث الأخيرة، منها 12 مشروعاً خلال سنة 2024، جلها أحيل من وزارة العدل ورئاسة الحكومة والأمانة العامة للحكومة. هذا الحضور التشريعي المتنامي يؤكد المكانة الدستورية للمجلس كمؤسسة قائمة على الاستقلال والحياد والخبرة، تسهم في تطوير المنظومة القانونية وتكريس دولة الحق والقانون.
أما في ما يخص تتبع تنفيذ المخطط الاستراتيجي 2021-2026، فقد أظهرت المؤشرات أن نسبة الإجراءات المنجزة بالكامل بلغت 25%، فيما بلغت نسبة الإجراءات التي تم تفعيلها بشكل مستدام 52%، مقابل 18% في طور الإنجاز، دون تسجيل أي إجراء غير منجز. هذه النتائج تعكس تقدماً ملموساً في مسار تنفيذ الإصلاحات، وتؤشر على نجاعة المنهجية المعتمدة في التخطيط والتنفيذ والتقييم.
لقد جسدت سنة 2024 مرحلة جديدة في بناء سلطة قضائية مستقلة وفعالة، قائمة على الحكامة والمسؤولية والشفافية، ومكرسة لدور القضاء كضامن للحقوق والحريات ومساهم أساسي في التنمية المؤسساتية والاقتصادية للمملكة. ومع استمرار تنزيل المخطط الاستراتيجي في أفق 2026، تواصل السلطة القضائية المغربية ترسيخ مكانتها كمؤسسة حديثة قادرة على مواكبة التحولات الكبرى التي تعرفها الدولة المغربية في ظل رؤية ملكية سامية تهدف إلى تعزيز سيادة القانون وإرساء عدالة مواطِنة وناجعة في خدمة الوطن والمواطن