في تقرير 2024 للمجلس الأعلى للسلطة القضائية: المجلس يتفاعل مع شكايات وتظلمات المواطنين ‏‏

0

تنفيذاً للتوجيهات الملكية السامية التي أكد فيها جلالة الملك محمد السادس نصره الله في أكثر من ‏مناسبة على ضرورة جعل القضاء في خدمة المواطن، وتعزيز مبدأ القرب المؤسساتي من المتقاضين، لم ‏يتعامل المجلس الأعلى للسلطة القضائية مع موضوع الشكايات والتظلمات باعتباره مجرد إجراء إداري ‏روتيني، بل اعتبره مدخلاً استراتيجياً لترسيخ الثقة وتعزيز المشروعية الأخلاقية للمؤسسة القضائية‎.‎
فالشكاية، في جوهرها، ليست مجرد وثيقة مكتوبة يضعها المواطن أمام الإدارة، بل هي رسالة ‏تحمل في طياتها معاني عميقة؛ فهي تعبير عن الثقة في المجلس كمؤسسة يمكن أن تُسمع عندها ‏الأصوات، كما أنها مؤشر على طبيعة العلاقة بين المواطن والعدالة ومرآة تعكس صورة القضاء في نظر ‏المجتمع‎.‎
وقد برزت هذه الأهمية بوضوح خلال حصيلة سنة 2024، إذ استقبل المجلس الأعلى للسلطة ‏القضائية ما مجموعه 7.513 شكاية وتظلماً. هذا الرقم، الذي يُعد مرتفعاً مقارنة بالسنوات السابقة، ‏يدل على أن المواطن المغربي، والجمعيات المدنية، والمؤسسات المهنية، وحتى الجالية المغربية بالخارج، ‏أصبحوا يعتبرون المجلس عنواناً للإنصاف ومكاناً لتصحيح أي اختلالات قد تطرأ على سير العدالة. ‏ويؤكد بلوغ مجموع الشكايات التي تلقاها المجلس منذ سنة 2017 وحتى نهاية 2024 إلى 47.735 شكاية، ‏أن الثقة في هذه المؤسسة متراكمة وراسخة، وأن حضورها أصبح جزءاً أصيلاً من المشهد القضائي ‏الوطني‎.‎
إن هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات جافة، بل مؤشرات تحمل دلالات عميقة، فارتفاع عدد ‏الشكايات يكشف عن اتساع دائرة الوعي بحقوق المتقاضين، ويُظهر استعداد المجلس للتفاعل مع كل ‏صوت يصل إليه، بصرف النظر عن مصدره أو موضوعه. كما أن هذه الحصيلة الضخمة تمثل أداة ‏حقيقية لتشخيص مكامن الخلل في المنظومة القضائية، وفرصة لتطوير السياسات والإجراءات بما ‏يتناسب مع حاجيات المواطنين وانتظاراتهم‎.‎
ولم يكن هذا التوجه نحو إعطاء الشكايات مكانتها المركزية وليد الصدفة، بل جاء في إطار تنزيل ‏المخطط الاستراتيجي للمجلس للفترة 2021–2026، الذي خصّص ورشاً متكاملاً للتعامل مع الشكايات ‏والتظلمات (الورشة رقم 41). وقد نص هذا الورش على ثلاثة إجراءات أساسية مترابطة‏‎:‎
 تبسيط طرق تلقي الشكايات (الإجراء 149)‏‎: ‎عبر فتح قنوات متعددة تمكّن المواطن من ‏تقديم تظلمه سواء بالإيداع المباشر، أو البريد، أو الوسائط الرقمية، أو من خلال ‏الإحالات المؤسساتية الرسمية‎.‎
 إرساء مسطرة دقيقة وشفافة لدراسة الشكايات (الإجراء 150)‏‎: ‎لضمان فحص مضمون ‏الشكاية بعناية، والتأكد من الوثائق المرفقة بها، واتخاذ القرار بشأنها بعد تحليل شامل ‏لها‎.‎
 إشعار المشتكين بمآل شكاياتهم (الإجراء 151)‏‎: ‎وهو إجراء يترجم مبدأ الشفافية، ويكرس ‏ربط المسؤولية بالمحاسبة، ويمنع بقاء المواطن في حالة غموض أو انتظار‎.‎
وتؤكد الأرقام المسجلة خلال سنة 2024 أن هذه الإجراءات تحولت إلى واقع ملموس. فقد تمكن ‏المجلس من معالجة 7.251 شكاية بشكل نهائي، أي بنسبة إنجاز بلغت 96,5% من مجموع الشكايات ‏المسجلة. هذا المعدل المرتفع يعكس جدية الآليات المعتمدة ونجاعة المقاربة التنظيمية التي وُضعت ‏لضمان السرعة والفعالية في التدبير؛ أما الباقي وعدده 262 شكاية، فما زال في طور الدراسة أو ‏البحث، وهو رقم ضئيل نسبياً إذا ما قورن بالمجموع الكلي، ما يدل على أن التراكم محدود ويخضع ‏للمراقبة والتتبع المستمرين‎.‎
ولعل ما يزيد هذه النتائج أهمية هو التوزيع المتنوع لمصادر ورود الشكايات، ما يعكس انفتاح ‏المجلس وتعدد واجهات تواصله مع المرتفقين. فقد احتل الإيداع المباشر المرتبة الأولى بـ 2.323 شكاية، ‏فيما بلغ عدد الشكايات الواردة عبر البريد 1.926 شكاية، وهو رقم يبرز استمرار اعتماد القنوات ‏التقليدية في التواصل. وسجلت رئاسة النيابة العامة ما مجموعه 1.379 شكاية محالة على المجلس، ‏ووزارة العدل 1.022 شكاية، والمندوبية العامة لإدارة السجون 292 شكاية، بينما أحالت محكمة ‏النقض 212 شكاية‎.‎
إن هذه الأرقام تؤكد أن الشكايات لا تأتي من مصدر واحد، بل هي نتاج شبكة واسعة من ‏القنوات الرسمية وغير الرسمية، ما يضفي على عمل المجلس بعداً شاملاً ويجعله قادراً على رصد ‏مكامن الخلل في مختلف حلقات المنظومة القضائية. وبهذا يتضح أن المجلس لم يتعامل مع الشكايات ‏كتراكم عددي، وإنما كمعطيات استراتيجية تساعده على صياغة قرارات أكثر دقة وفعالية، وتساهم في ‏تعزيز الثقة المجتمعية في المؤسسة القضائية‎.‎
تأهيل البنية الإدارية المكلفة بتدبير الشكايات والتظلمات
انطلاقاً من قناعة راسخة بأن الشكايات والتظلمات ليست مجرد مراسلات عابرة، وإنما هي ‏مؤشرات دقيقة على مستوى ثقة المواطنين في العدالة، باشر المجلس الأعلى للسلطة القضائية عملاً ‏متدرجاً لتأهيل بنيته الإدارية المكلفة بهذا المجال، من خلال وجود بنية تنظيمية وإدارية قوية، مؤهلة ‏من حيث الموارد البشرية، مدعّمة بالوسائل التقنية، ومؤطرة بمساطر دقيقة وواضحة‎.‎
‏1.‏ ‎ ‎التنظيم الهيكلي
حافظ قرار الرئيس المنتدب للمجلس رقم 23/16 الصادر في 10 يوليوز 2023 بتحديد الهياكل ‏الإدارية والمالية للمجلس على البنية الإدارية المكلفة بتدبير الشكايات والتظلمات على نفس الوضع ‏المؤسساتي والإداري الذي كان لها في ظل الهيكلة السابقة، باعتبارها شعبة تضم وحدتان، وبالمقابل ‏أخضعها للتبعية المباشرة للرئيس المنتدب نظراً لخصوصية وأهمية المهام التي تضطلع بها، وحدد بشكل ‏دقيق ومفصل اختصاصاتها بما يسهم في تعزيز دورها في تنزيل رؤية المجلس في مجال الشفافية ‏والتخليق وحسن التواصل وتعزيز ثقة المواطن.‏
‏2.‏ الموارد البشرية المؤهلة
لم يقتصر المجلس الأعلى للسلطة القضائية على تعيين موظفين إداريين عاديين داخل الشعبة ‏المكلفة بالشكايات والتظلمات، بل أسند مهامها إلى أطر قضائية وإدارية تتوفر على خبرة قانونية ‏ومعرفة دقيقة بالنصوص والإجراءات المسطرية. وقد استفاد هؤلاء الأطر من برامج تكوين مستمر همّت ‏تطوير قدراتهم في الاستماع للمرتفقين، وفهم مضامين الشكايات بشكل معمق، وتحليل الوثائق المرفقة ‏بدقة. كما ركزت هذه التكوينات على تنمية مهارات التواصل الإيجابي مع المواطنين، بما يعزز مناخ ‏الثقة والاحترام المتبادل‎.‎
‏3.‏ الوسائل التقنية واللوجستية
جهز المجلس هذه البنية بوسائل معلوماتية حديثة سمحت بتسجيل الشكايات رقمياً منذ لحظة ‏ورودها، وربطها بنظام تتبع داخلي يتيح معرفة وضعية كل شكاية في مختلف مراحل المعالجة. ‏
‏4.‏ المساطر الإجرائية
اعتمد المجلس مساطر دقيقة تحدد طريقة تسجيل الشكايات وتوجيهها ودراستها في آجال ‏مضبوطة. فبعد تسجيل الشكاية، تُعرض على المصالح المختصة لدراسة أولية، ثم يُتخذ بشأنها القرار ‏المناسب، وهو ما حصل فعلاً في آلاف الحالات خلال سنة 2024، حيث جرى توجيه مراسلات مكتوبة أو ‏إلكترونية إلى المشتكين لإخبارهم بما تم بشأن تظلماتهم‎.‎

ج.غ/ح

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.