بقلم مصطفى البحر:الى عهد قريب كان من الصعب جدا معرفة حقيقة الوضع الصحي للملك ،لما كانت تنطوي عليه الأعراف السلطانية المتخنة بالتقاليد والعادات الموغلة في التحفظ والتحنيط المبالغ في الحساسية المفرطة حيال كل ما كان يجري داخل أسوار البلاط بشكل خاص ومن خلاله داخل أسوار القصر بشكل عام.
ما كان يطفي على الأحوال الصحية للجالس على عرش المملكة المغربية لعقود من الزمن إن لم نقل قرونا ، الكثير من الغموض، قبل تغطي مساحات واسعة من البياض المجسور بمسلمات الصمت الرهيب، المنتهي الى فبركة الأخبار الزائفة وصناعة القصص والروايات المسنودة بمكر ودهاء المخيال الشعبي النافذ الى عمق التاريخ الشفاهي المتواتر حول القضايا والأحداث الغابرة الخيالية منها و المصطنعة حيال صحة ووضع الملك.
لكن بعد وصول الملك محمد السادس الى عرش المملكة خلفا لوالده الراحل جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله سنة 1999, قرر بجرأة نادرة وغير مسبوقة في تاريخ ملوك العلوين على سبيل المثال لا الحصر ، تكسير قيود الصمت وتحطيم أسوار سجن المعلومة إن صح التعبير التي كانت تتغذى علي الإشاعة والأخبار المختلقة . معلنا جلالته فتح أبواب البلاط قبل أبواب القصر لإطلاع الشعب بشفافية ووضوح على كل ما يتعلق بحياة وشخص الملك ، بعيدا عن أي مظهر من مظاهر التحفظ أو الغموض. وقد بدت تجليات التعاطي الجديد للملك ، بخاصة في هذا المجال، مباشرة بعد إعلان القصر في بلاغ رسمي عن إشهار زواجه وإحياء حفل بالمناسبة بصيغة العرس المغربي الأصيل بكل طقوسه وعاداته المتعارف عليها بكافة مناطق المغرب ،ونقل جميع مراسيم حفل الزواج على الهواء مباشرة وعبر شاشات التلفاز ، من أجل مشاركة المغاربة قاطبة أفراح العرس الملكي الاول من نوعه في تاريخ ملوك وسلاطين الأسرة العلوية بالصيغة المتحدث عنها. في إشارة من جلالته بتدشين عهد جديد قوامه تقعيد أصول سياسة القرب والتواصل المباشر مع الشعب ، وتحطيم جدران القداسة والحصون التي كانت مسيجة لمحيط الملك ، التي كانت تجعل عاهل البلاد في شبه عزلة عن حقيقة معرفة واقع الشعب ،عقب مواصلة تشييد البروج الفاصلة بين رئيس الدولة وأبناء الوطن ، وتضخيم سياسة الأعراف والقيود السلطانية بدوافع خارج عن الواقع والمنطق. بغية الإبقاء على المسافة المقطوعة بين الملك وشعبه ، كي يتسنى لصانعها من ما يعرف بخدام الأعتاب الشريفة، فرتلت كل شيء بالقدر الذي يخدم مصالحهم قبل مصالح الجالس على العرش ومصالح الامة.
وكان أن أعلن جلالته في إدراك بالغ النباهة عن تكسير أقوى التقاليد السلطانية والأعراف والطقوس التي كبلت البلاط وأحاطته بهالة وسياج يتعارض في كليته مع ما تفرض تفرضه طبيعة البيعة الشرعية وأدبيات العلاقة بين الملك باعتباره أمير المؤمنين وكافة فئات شعبه. رغم الدفع بغير ذلك في تفسير ما يطلق عليهم بحراس المعبد القديم داخل أسوار القصر. وبدون العودة الى المسارات والمناهج التي أسس صرحها وقواعدها بدهاء يفوق منطق الذكاء، الملك محمد السادس في إدارة شؤون العباد والبلاد ، لتشعباتها غير الإعتيادية وصعوبة تفكيك شفراتها المسنودة بنباهة وحكمة نافذة وتبصر وحنكة ورؤية ثاقبة للحاضر والمستقبل. نعرج في ذات السياق على أقوى رسائل الشفافية والوضوح الملكي في التعاطي مع كل يخص الحياة الشخصية للملك، سيما في الشق المتصل بالوضع الصحي لجلالته. حيث أسس كما سلف ذكره منذ إعتلاءه العرس ،لمقاربة مغايرة تماما لكل الأعراف التي سادت في التواصل مع الشعب. وأقر سياسة القرب بكل ما تحمله الكلمة من وزر مع أبناء شعبه، وذلك من خلال إطلاعهم على وضعه الصحي بأدق التفاصيل في كل مرحلة مرضية فرضت وتفرض نفسها دون تحفظ أو خشية ، حتى يكون الشعب على بينة من أمره وعلى علم بكل التفاصيل والجزئيات التي تخص الوضع الصحي لجلالته.
بالإضافة الى قطع الطريق على كل التأويلات التعسفية والغموض والأكاذيب والإشاعات التي تحوم حول صحة الملك وتكسير قيود الحيطة والتكهنات. كما حصل أول أمس ، لما أعلن البروفيسور لحسن بليمني الطبيب الجديد الخاص للملك، عن إصابة جلالته بفيروس كوفيد 19 بدون أعراض .ويأتي هذا الإعلان الملكي بشأن الوضع الصحي للملك ، في سياق تكريس سياسة التواصل المباشر ومعرفة واقع الحالة الصحية لملك البلاد ، والتي تم ترسيخ قواعدها لسنوات خلت لإبلاغ الرأي العام بكافة تفاصيل وضع جلالته الصحي. وهو المحنى الذي أرسى قواعده منذ عام 2009 ، حين تم الإعلان للمرة الاولى بشفافية واضحة عن إصابة الملك ب” روتا فيروس” . وبعدها في سنة 2014 كشف القصر الملكي عن إصابة ملك البلاد بأعراض زكام حاد مصحوب بحمى وإلتهاب الشهب الهوائية. وفي عام 2017 أعلن الناطق الرسمي بإسم القصر الملكي عن خضوع الملك لعملية جراحية على مستوى القلب بسبب عدم انتظام دقاته.
واليوم يؤكد جلالته ذات التوجه رغبة منه في إطلاع الشعب على حالته الصحية ، بهدف منع الشائعات والأخبار الكاذبة. عكس بعض قادة ورؤساء بعض الدول التي لاتعرفها شعوبها الحالة الصحية لحكامها. فالملك محمد السادس فضل سياسة الوضوح على انتهاج سياسة الكواليس ولو تعلق الامر بالوضع الصحي لجلالته. الامر الذي يرى فيه مراقبون كثير من الجرأة السياسية والتطبيع مع مقاربات ملكية غاية في الاهمية.على اعتبار أن النظام السياسي الذي يقوم على محورية ودور الملك يجب أن تكون تحركاته بما فيها وضعه الصحي، في الواجهة لأن غياب أو تغيب الملك يؤثر بكل تأكيد على السيرالعادي للنظام ومن خلاله على المؤسسات. وهذا ما لم يقبله ملك البلاد محمد السادس تحت أي ظرف صحي أوما شابه ذلك.
التعليقات مغلقة.