يبدأ التاريخ حين يسقط ضحايا إسرائيليون.. يبدأ التاريخ لافتا للنظر، حين يتجاوز القتلى الإسرائيليون مئات الضحايا… هنا تتحرك دول العالم، حين ترى الدموع الإسرائيلية لأول مرة، قبل ذلك لم يعرفوها، منذ محارق أوشفيتز.. بعد ذلك، كانوا يكتفون بالتفرج على الضحايا الفلسطينيون.. كانوا بستأنسون بدموعهم.. لأنها مكرورة ومستعادة، ومعروفة.. مع مرور المجازر أضحت دموع الفلسطينيين لا توقظ شيئا فيهم، حتى أنه لا بأس للعودة إلى الميثولوجيا العبرية، التي تعتقد أن الفلسطيني الميت هو الفلسطيني الجيد أو المحايد أو المسالم والسوي أو الذي يترك إسرائيل تفعل به ما تشاء..
الآن تستعيد إسرائيل دموع الدياسبورا اليهودية، كأنها تستعيد ميثولوجيا الشتات، كل دموع العالم، لايمكن أن تنسي الإسرائيلي القتيل أو المسبي، أو الأسير.. لأنهم كانوا يعتقدون أن التاريخ المعارض لهم، لايمكن أن يتجاوز وفي أكثر الأحوال رشقهم بالحجارة.. ولم يتغير الفلسطينيون.. ولم تتغير الحجارة.. وآخرها الانتفاضة التاريخية الأولى والثانية.. لكن التاريخ في تلك المنطقة الرخوة، الشبيهة برمال متحركة، والتي لم تبرحها سكاكين القتل منذ قرون.. أصبح يرشق السابلة الإسرائيلية بالصواريخ..
حتى البارحة كان نتنياهو يصرخ، كان يهوه معنا حين تأسست إسرائيل، الآن لا يعرف إلى أين يقود إسرائيل.. طبعا إلى المحرقة الثانية.. وكأنه يريد أن يقول، وبالإيماء السياسي المعهود، “كنا نقتل الفلسطينيين لاعتقادنا، أنهم ألفوا القتل، وأنه لابد سننتهي منهم إستراتيجيا، طال الوقت أو قصر”.. وكـأنه نسي كلام الراحل ياسر عرفات.. “أقتلوا كل الفلسطينيين، لكن هناك آخرين سيحاربونكم من القبور”.. وكلام الزعيم الراحل جورج حبش.. “نحن شعب يريد العيش مثلكم، لا ذنب له سوى أن فلسطين أرضه، ولن يتخلى عنها أو يتركها”.. لكن نتنياهو نسي إن إسرائيل ابنة الغيتوهات، التي فرضتها عليهم دول أوروبا، وأن الفلسطينيون أبناء الخيام التي فرضتها عليهم إسرائيل بعد أن اقتلعتهم من أراضيهم وبيوتهم.. لكن، أيضا أرغمتهم أن يعيشوا وهم يحملون الحجارة والسلاح في أيديهم، للقتال من أجل أرضهم، التي ولد فيها آبائهم وأجدادهم، وسيولد فيها أبنائهم..
فعلى امتداد أزيد من نصف قرن، جربت المقاومة الفلسطينية، بأطيافها واديولوجياتها، كل أساليب ودروب المواجهة مع إسرائيل، ولم تصل إلى حل.. كانت إسرائيل تغلق كل أبواب الحلول.. بل احالتها إلى ظاهرة شفوية وتمادت في استصغارها واحتقارها ونبدها.. مستمدة في حربها ضد الفلسطينيين.. سند الدفاع عن الوطن القومي الإسرائيلي من كل الأحزاب العلمانية، والدفاع عن شريعة الله اليهودية، من طرف الأحزاب الدينية واليمينية لتبرير قتل الفلسطينيين، والتنكيل بهم، وهدم منازلهم، وترحيلهم.. لكن إسرائيل، تقوم أيضا وبالنيابة عن القوى الغربية في المنطقة، باختزال تطبيق منظومة قيم الهيمنة الغربية في الشعب الفلسطيني ومنه إلى باقي الدول العربية.. وإلا بماذا نفسر ردود الفعل الغربية، التي لا تتساءل بعد حرب غزة، عن الحلو السلام مع الفلسطينيين، بل عن سبب تداعي أو اختفاء قوة إسرائيل لحظة المواجهة مع الفلسطينيين.. وبمنتهى الغطرسة، وبسكوت الدول الغربية عن تصريحات نتنياهو الهستيرية، التي يشبه فيها الفوهرر، بتدشين انتقام تاريخي، غير مسبوق ضد غزة، بل ضد الشعب الفلسطيني.. هذا دون إبداء أي شكوك، أن ما قامت به حماس، وبغابة صواريخها في إسرائيل، وبنوايا سبات المخابرات العسكرية الإسرائيلية، التي لم تتمكن، التحليلات العسكرية من تفسير وتبرير نومتها التاريخية.. مجرد تضخيم كبير، لوضع أرادت به إسرائيل تحقيق كارثة ضد الفلسطينيين..
نتانياهو الذي يقود أكبر حكومة متطرفة، والذي يصفه بني غانتس، بـنيرون “الذي يحرق أورشليم” ستسفر سياسته عن مذبحة بين الإسرائيليين.. وعن مذبحة بين فرقاء الجيش الإسرائيلي. بدأ مرحلة الانتقام من الشعب الفلسطيني، ولن ينهيها بغزة.. وقد بدأها بإشعال الفتيل في الضحايا الإسرائيليين، على قاعدة الميكيافلية الفجة.. “لابد من الضحايا للوصول إلى ضحايا أكبر وأكثر في صفوف العدو..” أي كنس الشعب الفلسطيني من أراضيه، ألم يقل نتانياهو، “إن حربه ضد غزة ستغير وجه الشرق الأوسط”.. وهذا ما ترجمته رانا لافايس زعيمة “حركة نحلاه الاستيطانية”.. وهي تدعو نتنياهو إلى تحريك مطارقه، “اضرب يانتنياهو، كي تخرج الفئران الفلسطينية من جحورها“..
والحال أن نتنياهو يمارس راديكالية قصوى في مواجهة الشعب الفلسطيني، هي امتداد متواصل لمن سبقوه من حكام إسرائيل.. ولم ينتج عنها سوى رد فلسطيني، هذه المرة أكبر بكثير مما عهدته إسرائيل.. لكن، هذه المرة أيضا سيكون الرد أكبر على الرد الأكبر.. وليس للشعب الفلسطيني ما يخسره، وهو يواصل تباعا مسيرة ردوده ضد القوة الإسرائيلية..
لنتذكر أن القوة المفرطة في هذه الأرض، وعلى مر التاريخ، لا ينتج عنها إلا الضعف والشتات.. فيما تاريخ إسرائيل الآتي، منذ منتصف القرن الماضي، على صهوة القوة الغاشمة والفاشية، ما زال يحبو في بدايته، ولم يتجاوز القرن من الزمن، وهو تاريخ حربه ضد الفلسطينيين، الذين لم ينسوا، ومنذ الأزل أنهم يقاومون من أجل أرضهم.. مع العلم أن إسرائيل لم تلتئم تاريخيا، ولم تتحد حتى الآن.. فخليطها من شعوب الإشكناز والسفارديم والمزراحيم… تنوء بثقل التنوع وشتات الشتات.. فقط لنتذكر، أن أثر محرقة أورشليم، ما زالت رائحة شياطها تنبعث من التاريخ بعد أن انتهت إلى حرب بين مملكة يهودا ومملكة إسرائيل.. القسمة والصراع لم يبردا حتى الآن.. من يدري ..الآتي سيكون أورشليم أخرى، شتات تاريخي آخر..
مصطفى الزارعي
التعليقات مغلقة.