عبد الكبير طبيح : تم تداول رسالة على وسائط التواصل الاجتماعي من الأمانة العامة للحكومة المؤرخة في 03/06/2024 تحت رقم 1176 تتعلق بمشروع قانون المسطرة الجنائية موجهة إلى أعضاء الحكومة قبل أن يعقد مجلس الحكومة لدراسته في اجتماعه في 26/06/2024. وهو الاجتماع الذي لم يصادق فيه مجلس الحكومة على ذلك الشروع وآخره من أجل تعميق الدراسة في بعض مقتضياته.
كما تم تداول رسالة ثانية على وسائط التواصل الاجتماعي مرة أخرى للأمين العام للحكومة موجهة لأعضاء الحكومة تتعلق بنفس المشروع مع تعديلات على المادة 7 والمادة 265، قبل أن يعقد مجلس الحكومة اجتماعا في 29/08/2024 ليصادق على ذلك المشروع وليقرر إحالته على البرلمان. كما تم تداوله إعلاميا.
وإن مشروع قانون المسطرة الجنائية وإن كان يتميز عن مشروع المسطرة المدنية بما حمله للمتقاضي من حقوق جديدة وضمانات للحق في الدفاع واستناده على خلاصات تقرير النموذج التنموي الذي أغفله مشروع قانون المسطرة المدنية، إلا أن هذا المقال سيقتصر على المستجد الجد مهم وهو إعلان مشروع القانون لأول مرة في التاريخ القانوني للمغرب عن الجهة المكلفة بوضع السياسة الجنائية من جهة. وإعلانه على عودة علاقة وزير العدل بالنيابة العامة من جهة أخرى.
***********************
بعد دخول دستور 2011 حيز التنفيذ، والذي نص في الفصل 116 منه على أن النيابة العامة هي تابعة لسلطة تشرف عليها وتراقبها وتقيم أعمالها غير أنه لم يحددها بالاسم. واعتبر البعض أن السلطة التي يتكلم عليها الدستور لا يمكن أن تعني إلا واحدة من السلطات الثلاثة التي ينظمها الدستور نفسه.
وبتاريخ 04/05/2013 بادرت إلى نشر مقال في بعض الصحف المكتوبة وهي الاتحاد الاشتراكي وجريدة الصباح، تحت عنوان هو عبارة عن تساؤل وهو: ماهي السلطة التي تستتبع لها النيابة العامة. وهو مقال حرر قبل صدور القانون التنظيمي المتعلق بالقانون الأساسي للقضاء الذي سيصدر في 24/03/2016. قبل صدور القانون العادي الذي سينقل اختصاصات الدعوى العمومية من وزير العدل إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة. والذي صدر في 30/08/2017.
وهو المقال الذي سأستعين ببعض ما ورد فيه من أفكار ومعلومات نظرا لكونها أصبحت اليوم لها راهنتيها مع صدور مشروع قانون المسطرة الجنائية. وعلى الخصوص نصه بشكل علني وواضح على أن للحكومة احتكار وصلاحية وضع السياسة الجنائية من جهة. وأعاد النص على قانونية علاقة وزير العدل بالدعوى العمومية وعلى تتبعه لعمل النيابة العامة من جهة أخرى.
*****************
من المفيد لنجاح أي تحليل أو معالجة لأي إشكال، سواء كان فكريا أو قانونيا أو دستوريا، أن يوضع له تأطير تفرضه قواعد المنهج وضوابط المنطق، حتى تكون المقدمات منسجمة مع النتائج والخلاصات.
وإن كان هناك من موضوع يستلزم هذا التأطير الفكري فهو الموضوع الذي يحاول أن يجيب على سؤال استقلالية النيابة العامة في القانون المغربي. وهو الجواب الذي نستدعي له المقدمات التالية:
المقدمة الأولى
أنه يجب استحضار أن النيابة العامة في المغرب انتقلت من الاستقلالية عن السلطات التنفيذية. وهي الاستقلالية التي أسس لها قانون المسطرة الجنائية لسنة 1959 في مرحلة أولى. إلى التبعية المسكوت عنها لهذه السلطات التنفيذية وهي التبعية المضبوطة بالتعليمات الشفوية التي أسس لها قانون المسطرة الجنائية لسنة 2002 في مادته 51 في مرحلة ثانية. إلى استقلال تام عن الحكومة وعن وزير العدل التي أسس لها القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة في مادته 25 في مرحلة ثالثة. ليعد مشروع المسطرة الجنائية الحالي عمل النيابة العامة إلى حضن الحكومة عن طريق احتكار هذه الأخيرة لوضع السياسة الجنائية. وعن طريق إعادة العلاقة مع وزير العدل في هذه المرحلة الرابعة.
وهذه المراحل الأربعة التي سيتم تناول بعض من التفصيل فيها فيما بعد.
المقدمة الثانية
إن الحديث على القواعد القانونية التي تنظم الوضع القانوني والدستوري للنيابة العامة يختلف جذريا عن الحديث عن القوانين التي قد تنظم بعض المهن سواء تعلق الأمر بمهن المحاماة أو الموثقين أو حتى بالمؤسسات العمومية. وأحيانا حتى القوانين المتعلقة بقضاء الحكم.
ومرد ذلك هو أن البحث في الأدوار المجتمعية للنيابة العامة هو بحث في صلب بناء الدولة. وهو ما يفرض الخروج من منطق الدفاع عن مصالح فردية أو جماعية أو اتخاذ مواقف سياسية من أغلبية أو معارضة من هذا الاتجاه أو ذاك. والتفكير من داخل صلب المسؤولية الجماعية لفهم هندسة بناء الدولة.
المقدمة الثالثة
إن دستور 2011 والذي صادق عليه جل المغاربة حسم في أكبر القضايا المركزية انطلاقا من مبادئ موجهة كان أولها تلك المنصوص عليها في الفصل الأول من الدستور. وعلى الخصوص الفقرة الثانية التي ورد فيها فيما يلي:
“يقوم النظام الدستوري للمملكة على أساس فصل السلط وتوازنها وتعاونها والديمقراطية “المواطنة “والتشاركية وعلى مبادئ الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة.
المقدمة الرابعة
أن دقة موضوع استقلالية النيابة العامة وحساسيته هي نابعة من العناصر التالية:
1-نظرا لكون النيابة العامة موكول لها، مثلها مثل جميع النيابات العامة في جميع الدول، وفي إطار القانون، تنفيذ السياسة الجنائية لدولة معينة. أي ممارسة العنف المشروع. بما يتمثل في سلطة الحرمان من ممارسة بعض من الحريات الفردية والجماعية. وسلطتها في اعتقال الأفراد وفي منعهم من التنقل وغيره من الإجراءات التي تمس بحقوق الأفراد والجماعات الطبيعية.
2-ونظرا لكون النيابة العامة تمارس سلطاتها المتعددة تلك بطريقة انفرادية. ما دام لا يوجد أي نص قانوني ينص على أن النيابة العامة هي قضاء جماعي.
3-ونظرا لكون أعضاء النيابة العامة لا يمكن تجريهم.
بعد هذه المقدمات سنحاول تقديم وجهة نظر حول الوضع الجديد للنيابة العامة الذي أتى به مشروع قانون المسطرة الجنائي، في علاقتها مع السلطة الحكومية وعلاقتها مع وزير العدل بالخصوص. وذلك عن طريق ملامسة إشكالية الأدوار المجتمعية للنيابة العامة من خلال طرح القضايا التاليـة:
1-علاقة النيابة العامة بالسلطة التنفيذية في الأنظمة القانونية والسياسية الأجنبية
2-كيف انتقلت النيابة العامة في المغرب من الاستقلالية عن السلطة التنفيذية إلى التبعية.
3-العرض الذي يقدمه مشروع المسطرة الجنائية بخصوص الوضعية القانونية للنيابة العامة.
سنحاول، إذن، أن نلامس أجوبة وليس كل الأجوبة، للأسئلة أو الإشكالات التي تطرحها القضايا المشار إليها أعلاه، علما أنه على الجميع أن يساهم بآرائه وأفكاره، إذ أن هذه المرحلة التي تمر منها بلادنا في حاجة ماسة لتعدد الآراء والأفكار حتى يمكن للجميع أن يستفيد ليس فقط من أحسنها، وإنما من جميعها. إذ أن الآراء التي يمكن أن توصف بكونها غير حسنة فإنها تصلح، في جميع الأحوال، كأداة للمقارنة.
1-علاقة النيابة العامة بالسلطة التنفيذية في الأنظمة القانونية والسياسية الأجنبية.
إن النقاش أو التداول حول الوضع القانوني للنيابة العامة في المجتمع هو أمر يتعلق بالخوض في القواعد والمنطلقات المبدئية التي تدخل فيما يمكن اعتباره ثابتا. بينما المتحول هو كل ما يتعلق بالأدوار المجتمعية الموكلة للنيابة العامة في وضع أو سن أو تدبير أو تنفيذ، حسب الحالات، للسياسة الجنائية.
ذلك أن وضع أو تدبير أو تنفيذ السياسة الجنائية هو الذي يقرر في تحديد مدى الأدوار الموكلة للنيابة العامة. لأن هذه الأدوار ليست محصورة في محاربة الجريمة فقط. لكنها مقررة كذلك في سياسة التنمية الاقتصادية والاجتماعية أي في السياسات المرتبطة والمؤثرة في الحياة اليومية للمواطن وفي التحولات التي يعرفها المجتمع.
ومرد هذا الدور الفاعل في كل ذلك يرجع إلى كون النيابة العامة تملك استعمال العنف. وهو العنف الذي يجب على الأفراد والجماعات أن يقبلوا به دون أن يسمح لهم بمقاومته. وهو العنف الذي يسمى قانونا بالعنف المشروع أي العنف المستند إلى القانون.
فتشخيص هذا الواقع هو الذي سيمكننا من البحث عن أجوبة، وليس جواب، لأشكال الوضع القانوني والدستوري للنيابة العامة في المستقبل.
نحن نعلم بحكم التجربة وما نعايشه يوميا منذ بداية الاستقلال، أن أدوار واختصاصات النيابة العامة تتغير بقدر التحولات التي يعرفها المجتمع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
فأدوار واختصاصات النيابة العامة هي مؤشر على التحولات التي يعرفها المجتمع. كما قد تكون في بعض الأحيان فاعلا مؤثرا في تلك التحولات وذلك التطور.
ويكفي أن أشير، حتى لا يظهر هذا الكلام فيه تعظيم لدور النيابة العامة، أن هذه الأخيرة، كمؤسسة ليست فقط موجودة وحاضرة وفاعلة في القضايا المرتبطة بمحاربة الجريمة. كالاعتداءات على الأشخاص أو الأموال أو الجرائم المنظمة كالإرهاب وغيره. بل هي حاضرة ومؤثرة، كذلك، في قضايا الشركات وفي القضايا العقارية وقضايا المرأة وقضايا البورصة وغيرها من مجالات الحياة اليومية. بل إن لدى وكيل الملك يتم التصريح بالجمعيات وإصدار الجرائد.
فالسؤال القوي الذي يجب أن يطرح بل والذي يجب ألا يكتفى بطرحه وإنما يجب البحث عن أجوبة له، هو هل هذه المؤسسة مستقلة أم تابعة. وإذا كانت تابعة فلمن هي تابعة. ويتولد عن هذا السؤال. سؤال آخر هو: وهل لا بد أن تكون تابعة لجهة ما؟
هذه، في تقديري، هي بعض الأسئلة والقضايا المهيكلة لفهم سليم للوضع القانوني للنيابة العامة في ظل دستور 2011. علما أن عدم تقديم أجوبة على هذا النوع من الأسئلة أو عدم تقديم أجوبة واضحة يجعلنا في منطق الغموض السائد اليوم والمرتبط بعدم معرفة الجهة التي المختصة في وضع السياسة الجنائية. وهو الغموض الواضح من صياغة المادة 51 من قانون المسطرة الجنائية الجاري به العمل التي تحدد من يبلغ وينفذ السياسة الجنائية. بينما لا تتكلم على الجهة التي تضع تلك السياسة الجنائية.
لكن، من المفيد الإشارة إلى أن منطق الغموض الذي يلف من يضع السياسة الجنائية ليس، دائما أمرا غير مقبول مجتمعيا وسياسيا. بل إن منطق الغموض قد يكون منطقا مقبولا لتدبير وضع صعب ومعقد. وليس لتسييره. سواء كان ذلك التدبير سياسيا أو مجتمعيا. وهو ما سنتطرق له فيما بعد.
لكن، وفي جميع الأحوال، سنجد أنفسنا أمام سؤال مؤسس آخر وهو من هي الجهة التي تختص في وضع السياسة الجنائية التي تكون النيابة العامة ملزمة بتطبيقها. بعدما لف الغموض معرفة هذه الجهة بعد صدور قانون33.17 الذي نقل اختصاصات وزير العدل في الدعوى العمومية إلى الوكيل العام لمحكمة النقض بصفته رئيس النيابة العامة.
الجواب على هذا السؤال يستدعي البحث كيف عالجت الدول الديمقراطية هذا الموضوع وكيف تغلبت عليه.
ذلك أن هذه الدول المتقدمة تستفيد من الفكر الإنساني والتطور العلمي وتطبقه في كل مجالات الحياة اليومية. ومما وقف عليه البحث العلمي اليوم هو القاعدة البيولوجية الثابتة القائلة بكون الوظيفة تخلق العضو La fonction crée l’organe.
في المجتمعات الغربية المبنية على قيم الحداثة والديمقراطية، عالجت هذا الإشكال بالبحث في مهمة ووظيفة النيابة العامة، لتحدد فيما بعد شكل وأدوار والجهة التي ستتبع لها هذه النيابة العامة. وذلك بالبحث فيما يعرف بالسياسة الجنائية باعتباره التوجه الذي تقدمه السلطة التنفيذية والسياسية، باعتبارها ممثلة لإرادة الأمة ومنتخبة ديمقراطيا والمسؤولة أمام البرلمان، على العملية القضائية أو العدلية. كما تفعل بخصوص باقي القطاعات الأخرى الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بالحياة اليومية للمواطن الذي تمثله، فهي، أي السلطة التنفيذية، في جميع الأقطار الديموقراطية لا تتخلى عن قطاع مهم كقطاع العدل.
ففي دول مثل الدول الأوروبية عرفت نقاشا صعبا من أجل الوصول إلى جواب على سؤال من يضع ويتحكم في وضع السياسة الجنائية. أي في نهاية المطاف هل النيابة العامة مستقلة عن أجهزة الدولة وغير خاضعة لتوجهاتها الكبرى. أم أنها مؤسسة فاعلة في تلك التوجهات.
إن محاولة الجواب على الإشكال المشار إليه أعلاه فرض على الفكر الحقوقي والسياسي الأوروبي أن يجيب على السؤال الذي لابد منه. ألا وهو وجوب الفصل في الخلاف القائم حول دور النيابة العامة في تدبير السياسة الجنائية بالنظر إلى الوضع القانوني للنيابة العامة في علاقتها مع السلطات التنفيذية. وفي علاقتها مع وزير العدل. حسب التسلسل التراتبي والقانوني الذي يوجد فيه هذا الأخير.
واسمحوا لي بان أعيد نقل ما سبق لي أن نشرته بخصوص هذه الإشكالية في جريد الاتحاد الاشتراكي في العدد 9794 بتاريخ 27/5/2011 في مقال تحت عنوان “القضاء كسلطة في دستور 2011”.
إن الازدواجية التي توجد عليها النيابة العامة هي التي وقف عليها السيد أندري فيتو “ANDRE VITU” وهو أستاذ بكلية الحقوق بنانسي، عندما خلص إلى أننا هنا أمام مفهومين متناقضين لدور النيابة العامة في فرنسا. المتمثل في الخضوع للتسلسل الإداري من جهة. والحرية في الحركة أي في تحريك المتابعة أو حفظها من جهة أخرى.
وبهذه الفكرة يلخص الأستاذ “VITU” جوهر الإشكال المؤسسي الذي تعرفه دولة من أعرق الدول في الممارسة الديموقراطية والقضائية. وهو إشكال يلقي بظلاله على النقاش الدائر حول الجهة المؤهلة شرعيا لوضع السياسة الجنائية. وهو الأمر الذي أكده، كذلك، البروفسور فرانسوا جاكو “FRANCOIS JAQUOT” عندما ذهب إلى القول إنه من الناحية التقنية والقانونية والسياسية، فإن موضوع الاستقلالية يدفعنا إلى الانكباب على دراسة تطور الأنظمة وعلى هياكل الديموقراطيات. وعلى العلاقة ما بين القانوني والسياسي. وكذا على وضع السؤال حول الخريطة الكلاسيكية لنظمنا الديموقراطية.
ويستمر في نفس النهج ليذهب للقول بأن غنى تلك الثقافة يبدأ من التحليل التقني لمؤسسات العدالة الجنائية لينتهي بتصورات دستورية وسياسية.
وبهذا يربط البروفسور “JAQUOT” ما بين السياسي والقانوني. في جدلية دائمة تكون متضاربة أحيانا ومتنافسة أحيانا أخرى.
وتذهب الأستاذة ميشال لوفر راسات “MICHELLE LAVRE RASSAT” وهي أستاذة مبرزة في جامعة باريس سبق أن أنجزت تقريرا حول إصلاح قانون المسطرة الجنائية، إلى أن النيابة العامة هي جهاز الربط ما بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية مكلفة بإسماع صوت الأولى لدى الثانية.
وتستمر في القول إن هذه الوضعية الغريبة للنيابة العامة هي نتيجة لخطأ تاريخي لرجال الثورة الفرنسية الذين لم يفهموا آنذاك جسامة الخطأ الذي سيرتكبونه وأثره على التحولات السياسية التي أنجزوها عندما حددوا الوضع القانوني للنيابة العامة وقرروا بأن ضباط النيابة العامة هم من أعوان السلطة التنفيذية لدى المحاكم (الفصل 1 من الكتاب 8 من المرسوم 24-16 غشت 1790). ولقد كان دافعهم إلى ذلك يرجع إلى أنه قبل الثورة كان لهؤلاء الضباط “لقب أعوان الملك لدى المحاكم”.
وتعلق الأستاذة RASSAT على موقف رجال الثورة بأنهم هم من غير اسم ضباط النيابة العامة من أعوان الملك لدى المحاكم إلى أعوان للسلطة التنفيذية لدى المحاكم.
وتضيف السيدة RASSAT أنهم لو تنبهوا إلى أن مفهوم أعوان الملك كان يعني الممثلين للسلطة السيادية POUVOIR SOUVERAIN. وأنهم لو دققوا في الأمر لأعطوهم اسم ممثلي الأمة. وليس ممثل السلطة التنفيذية.
وتذهب RASSAT للقول بأن هذه التسمية خلقت وضعا مزدوجا للنيابة العامة باعتبارها ممثلة للأمة. ذلك أن الأمة يعبر عنها بطريقتين: إما عن طريق التصويت على القوانين من طرف ممثلي الشعب من جهة. أو عند اختيار الحكومة من جهة أخرى. وبهذا يصبح ضابط النيابة العامة “خادم لسيدين مختلفين”.
SERVEURE DE DEUX MAITRES DIFDERENTS.
والخلاصة التي انتهت إليها الأستاذة RASSAT هي أن فصل السلط لا يعني تجاهل السلط
LA SEPARATION DU POUVOIR N’EST PAS L’INGNORANCE DU POUVOIR
وتضيف أنه إذا كان للحكومة الحق أن تسمع صوتها في قلب البرلمان الذي يتكون من ممثل الأمة. فإن من حقها أن تسمع صوتها للسلطة القضائية.
وتظهر هذه الخلاصة الفكرية و السياسية الواضحة والمؤسسة، في الكلمة التي افتتح بها رئيس اللجنة البرلمانية الفرنسية التي استمعت لقاضي التحقيق الفرنسي في قضية ما عرف ب(قضية d’Outreau) عندما واجه ذلك الرئيس قاضي التحقيق قبل بدابة الجلسة بالقول ما معناه: قد يتساءل البعض لماذا تتدخل السلطة التشريعية في السلطة القضائية. ويجيب رئيس اللجنة على السؤال الذي وضعه وهو يتوجه إلى قاضي التحقيق. إذا كنت بصفتك قاضيا تحكم باسم الشعب الفرنسي فأنا أمثل الشعب الفرنسي ….
وإذا كان هذا النقاش في فرنسا استطاع أن يصل إلى هذا النوع من التوافق على الرأي حول إشكالية دور النيابة العامة في علاقتها مع السلطة التنفيذية والسلطة القضائية فإن الوضع في بلجيكا لم يختلف بشكل كبير عن ذلك.
ذلك أن الدستور البلجيكي في الباب المتعلق بالنيابة العامة كان مشروع الفصل 137 منه ينص على ما يلي:
“النيابة العامة تمثل الجهاز التنفيذي في المجال الترابي لمحكمة الاستئناف …
وبعد النقاش الذي دار حول ذلك الفصل تم التراجع عن الصيغة المشار إليها أعلاه وعوضت بصيغة عامة خضعت هي كذلك لمبدأ التوافق وعدم الحسم. بل وتدبير الغموض. وأصبح الفصل 137 من دستور 1830 يقول إن النيابة العامة تقوم بأدوار تلقائية في المجال الترابي لمحكمة الاستئناف والمحاكم. لكنه، أي الدستور، احتفظ في الفصل 153 منه للملك بالحق في تعيين القضاة وعزلهم بشكل يحدده الوضع الدستوري للقاضي في بلجيكا.
وانطلاقا من هذا الوضع تقول السيدة كريستين دورين جاكوب CRISTINE DERENNE JACOBS وهي محامية وأستاذة بكلية الحقوق بلييج ببلجيكا، إن وزير العدل لا يمكنه أن يحل محل النيابة العامة في تحريك الدعوى العمومية. وأن تقاليد الاستقلالية هذه وصلت إلى حد منازعة وزير العدل في حقه في وضع خطوط للسياسة العدلية. على اعتبار أنها سياسة قضائية تدخل في اختصاص السلطة القضائية وليس السلطة التنفيذية.
غير أن التحولات التي عرفها العالم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ونظرا لتحكم قطب وحيد في السياسة الدولية. وكذا بروز ظاهرة الإرهاب كعنف جديد عابر للقارات سيؤثر في إعادة صياغة نسق قانوني ومؤسساتي مختلف في اتجاه الحد من مجال تدخل السلطات القضائية لفائدة تدعيم تدخل السلطات التنفيذية.
وتقول الأستاذة ASSAT في هذا الصدد إن تقرير لجنة التحقيق البرلمانية المؤرخ في30-04-1990 المتعلق بالإرهاب والجريمة قد قدم نظرة جديدة ونقدية بصفة خاصة للوضعية الحالية. معلنا انعدام وجود سياسة جنائية حقيقية. وغياب المراقبة على النيابة العامة.
كما خلصت اللجنة إلى أن السياسات العامة المتعلقة بالأبحاث والمتابعات هي من مسؤولية الحكومة وعلى الخصوص وزير العدل. والتي يجب أن تكون مراقبة من قبل البرلمان وعلى وزير العدل انطلاقا من توجهات عامة أن يحدد للنيابة العامة الخطوط الموجهة للسياسة الجنائية. وأنه يتحمل المسؤولية السياسية لذلك أمام البرلمان. بينما تطبيق هذه الخطوط الموجهة يرجع إلى النيابة العامة التي أعطاها القانون مهمة تحريك المتابعات. بينما وزير العدل يراقب حسن تطبيق تلك التوجهات.
وعندما ننتقل إلى ألمانيا سنلاحظ أن نفس النقاش بل وحتى الخلاصات التي انتهى إليها الفكر السياسي هناك هي متشابهة مع النقاش والخلاصات المشار إليها أعلاه. إذ يقول البروفسور هايك جانك HEIKE JUNG وهو أستاذ للقانون الجنائي في كيلة الحقوق في ألمانيا، أن النيابة العامة يمكن أن تتوصل بتعليمات تتعلق بالتعامل الخاص مع قضية وكذا السياسية الجنائية العامة. هذه التعليمات يمكن أن تكون داخلية كما يمكن أن تكون خارجية صادرة عن وزير العدل.
وعندما نطالع التقرير الذي أنجزه المجلس الوطني الفرنسي “البرلمان” المؤرخ في 18-06-1999 نلاحظ أنه أشار إلى أن لجنة TRUCHE قدمت توصيات إلى وزير العدل تدور حول الإشكالية التي نحن بصددها إذ جاء في تلك التوجهات: أن وزير العدل هو الذي يحدد علنيا التوجهات العامة لسياسة الدعوى العمومية. ولكن لا يمكنه إعطاء تعليمات للوكلاء العامين في قضايا خاصة. لكنه يمكنه التحاور DIALOGUER معهم بخصوص هذه الملفات. كما يمكنه اللجوء إلى جميع الأجهزة القضائية وأن يبلغها ملاحظاته عن طريق قاض أو محام عام.
كما نقرأ في تقرير لجنة القوانين، أنه من المشروع والضروري على الحكومة تحت مراقبة البرلمان أن تحدد المبادئ الموجهة للسياسة الجنائية. وأن وزير العدل يخبر النيابة العامة بهذه التوجيهات قبل العمل على تطبيقها.
وأن هذا الفكر القانوني والسياسي هو الذي حكم التعديل الأخير للدستور الفرنسي الذي قدمه الرئيس ساركوزي سنة 2008 والذي أبقى على وزير العدل ضمن أعضاء المجلس الأعلى للقضاء.
هكذا نلاحظ أن النقاش حول من هي الجهة المؤهلة لوضع السياسة الجنائية. انتهى إلى أنها هي السلطة التنفيذية أم السلطة القضائية. أنه قد حسم الخلاف لفائطدة الأولى.
إن هذا التوجه نجح بفضل استناده إلى مصدر الشرعية ومصدر السلطة أي إلى مصدر السيادة الذي هو الأمة.
وبما أن الحكومات في الدول المشار إليها أعلاه هي الممثلة للأغلبية البرلمانية. وبما أن البرلمان هو الممثل الشرعي لأفراد المجتمع. فإنه من المنطق الدستوري أن تتحمل السلطة التنفيذية مسؤولية وضع السياسة الجنائية والعدلية لتحاسب عليها أمام البرلمان. أي أمام ممثلي الأمة.
ويتبين من هذا النقاش أن التوجه انتهى إلى كون السلطة التنفيذية هي المكلفة والمسؤولة على وضع السياسة الجنائية لأنها هي التي ستسأل عنها أمام ممثلي الأمة.
2-كيف انتقلت النيابة العامة في المغرب من الاستقلالية إلى التبعية.
إن المغرب، من جانبه، وإعمالا لمنطق الغموض المتحدث عنه سابقا، أو تدبير الغموض كآلية من آليات التدبير السياسي والمجتمعي بصفة عامة، نص في المادة 51 من قانون المسطرة الجنائية على أن وزير العدل يشرف على تنفيذ السياسة الجنائية. بينما لا يوجد أي نص يتكلم عن الجهة التي تضع هذه السياسة الجنائية.
فهذه المادة أتت لتؤشر على الانتقال الذي ستعرفه النيابة العامة من وضع الاستقلالية التي خصها بها قانون المسطرة الجنائية لسنة 1959 إلى وضع التبعية للسلطة الحكومية. لكن بدون أن يعلن عن ذلك صراحة. أي باستعمال آلية الغموض المتحدث عنها سابقا. وهو الانتقال الذي يظهر من خلال عدة وجوه.
الوجه الأول لعملية الانتقال إلى التبعية
يظهر من التحول الذي عرفته النيابة العامة في علاقتها مع مبدإ الاستقلالية الذي رسمه قانون المسطرة الجنائية لسنة 1959.
ذلك أن قواعد المسطرة الجنائية في الجانب المتعلق بالوضع القانوني للنيابة العامة كانت بالفعل من الناحية القانونية مستقلة عن السلطة التنفيذية.
وتبين ذلك الاستقلال القانوني من كون أعلى سلطة كانت تترأس النيابة العامة كان هو وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية بصفته هو من أهله القانون لكي تكون له صفة ضابط سام للشرطة القضائية. أي الضابط الذي يتحكم في الشرطة القضائية وله حق الأمر باعتقال وفتح الدعوى العمومية ضد أي مواطن.
كما إنه في قانون المسطرة الجنائية لسنة 1959 لم يكن وكيل الملك رئيسا تسلسليا لنوابه. الذين كانوا يتمتعون هم كذلك بنفس الاستقلالية التي كان يتمتع بها قضاة الأحكام.
هذا الوضع القانوني سيتغير بمقتضى المسطرة الجنائية لسنة 2002. ومؤشر ذلك التغير هو أمرين:
1- أن هذا القانون سيعطي للوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف صفة ضابط سام للشرطة القضائية لأول مرة في تاريخ المغرب. طبقا للمادة 19 من قانون المسطرة الجنائية الجاري به العمل. بخلاف قانون المسطرة الجنائية لسنة 1959 الذي لم يكن يعطيه هذه الصفة.
2- أن الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف سيصبح سلطة تسلسلية ورئاسية لكل قضاة النيابة العامة بمن فيهم وكيل الملك. طبقا للمادة 49 من قانون المسطرة الجنائية. خلافا لما كان عليه الأمر في قانون المسطرة الجنائية لسنة 1959.
3- أن وكيل الملك سيصبح هو كذلك سلطة تسلسلية رئاسية بالنسبة لنوابه طبقا للمادة 39 من قانون المسطرة الجنائية.
هذه التعديلات في الوضع القانوني لوكلاء الملك التي أدخلها قانون المسطرة الجنائية لسنة 2002 سيتوج بسن القاعدة المذكورة في المادة 51 التي ستتكلم بصفة صريحة عن العلاقة بين النيابة العامة والسلطة التنفيذية. وستذكر بدور وزير العدل كحلقة وصل بين السلطة التنفيذية والنيابة العامة.
الوجه الثاني لعملية الانتقال
سيعرفه الوضع القانوني للنيابة العامة هو ما أتى به دستور 2011 الذي سن تحولا نوعيا ومؤسسيا للوضع القانوني للنيابة العامة في منظومة العدالة. وذلك من خلال 3 فصول وهي الفصل 108 والفصل 110 والفصل 116.
ذلك أنه إذ بالإضافة إلى أن الفصلين 110 و116 اللذين تحدثا عن وجود سلطة ستتبعها لها النيابة العامة، إلا أن انعدام استقلال النيابة العامة سيظهر أكثر في الفصل 108 الذي يسمح بعزل ونقل قضاة النيابة العامة خلافا لقضاة الأحكام الذي يمنع الدستور من نقلهم أو عزلهم. وهو ما يعني أن المشرع الدستوري ميز بين قضاة الأحكام وأعطاهم حصانة ضد العزل والانتقال. بينما لم يمدد تلك الحصانة إلى قضاة النيابة العامة.
ومن المعلوم، وفي جميع القوانين في الدول الديموقراطية، أن المؤشر على استقلال القاضي هو حصانته ضد العزل والنقل إلى محكمة أخرى. فعندما يحصر دستور 2011 هذا الحق في قضاة الحكم فقط. فإنه يقصد أن قضاة النيابة العامة قابلون للعزل وقابلون للنقل إلى محاكم أخرى. أي ليست لديهم أية حصانة من ذلك.
هذا الوضع القانوني والدستوري أصبح واضحا اليوم. وهو يشكل نهاية لمسار أو لتطور أو لتحول الوضع القانوني للنيابة العامة في بنيان الدولة أي من مسار من الاستقلالية إلى التبعية.
لكن السؤال الذي يحتاج إلى جواب هو من هي السلطة التي تتبع لها النيابة العامة حسب الدستور؟
قبل الجواب على هذا التساؤل لابد أن نستحضر ما أشير إليه أعلاه من كون الحديث عن النيابة العامة هو حديث في صلب بناء الدولة وهنا توزعت الآراء حول من هي “السلطة” المتحدث عنها في الفصلين 110 و116 من الدستور هل هي السلطة التنفيذية، أم السلطة القضائية.
كما هو معلوم فإن الدول الديمقراطية تعرف نوعين من أنظمة الاتهام: هناك نظام الاتهام المبني على ملاءمة المتابعة وهناك نظام الاتهام المبني على قانونية المتابعة.
فالنظام الأول يتيح للنيابة العامة أن تقرر عدم فتح المتابعة ضد شخص معين حتى ولو ارتكب فعلا مخالفا للقانون الجنائي لاعتبارات سياسية أو اجتماعية أو دولية دون أن تكون ملزمة بتبرير ذلك أو بالمحاسبة عليه. وذلك انطلاقا من مبدإ أحدث لهذه الغاية وهو مبدأ الملاءمة. وبالتالي فهذه السلطة الكبيرة تعطى للجهة التي تمثل الإرادة العامة للمواطنين وهي السلطة التنفيذية.
بينما نظام الاتهام المبني على الشرعية أو قانونية المتابعة. فهو يلزم النيابة العامة بأن تفتح المتابعة ضد كل من يخالف القانون بغض النظر عن صفة المعني بالأمر أو هويته أو الجهة التي ينتمي إليها. وهي سلطة تختص بها النيابة العامة المسؤولة عن تطبيق القانون الجاري به العمل على جميع المواطنين. ولا تمييز بينهم بل تطبق القانون على المواطن العادي مثله مثل أي مواطن آخر كيف ما كان مستواه الاجتماعي أو السياسي الذي يوجد عليه. كما وقع في قضية رئيس صندوق النقد الدولي السابق Dominique Strauss-Kahn عندما اعتقلته الشرطة الأمريكية ووضعت في يديه قيدا حديديا وأنزلته من الطائرة بناء على شكاية من سيدة أمريكية اتهمته بممارسة الجنس عليها بدون رضاها. وقبل أن تثبت التهمة في حقه.
والمغرب اختار، إلى حدود اليوم، إعمال النظام الاتهامي المبني على الملاءمة. وهو النظام الذي يتيح للنيابة العامة إمكانيات واسعة لتحريك الدعوى العمومية أو عدم تحريكها. وهو ما يترجمه الفصل 40 من قانون المسطرة الجنائية التي تعطي لوكيل الملك الحق أن يتخذ في الشكايات ما يراه ملائما ويعطيه الحق في حفظ الشكاية ويعطيه الحق في التراجع عن قرار الحفظ. دون أن يكون قراره مراقبا من جهة ما أو قابلا للطعن. وهو الأمر الذي تراجع عليه المشروع بعدما سمح بالطعن في قرار الحفظ. كما سنعود إلى ذلك في مقال آخر.
فالنتيجة القانونية والملزمة هي أن سلطات وكيل الملك في إقامته وممارسته للدعوى العمومية أو عند اتخاذ أي قرار بشأنها هي سلطة غير خاضعة لأي مراقبة. وغير قابلة لأي طعن. وهو ما يتأكد من نص الفصل 38 من قانون المسطرة الجنائية الصادر سنة 1959 الذي يعطي لوكيل الملك الحق في المتابعة أو عدمها. بدون أن يكون ملزما بتعليل ذلك وبدون أن يكون ذلك القرار قابلا للطعن.
بل إن الفصل 36 من نفس القانون أكد على نظام الاتهام المبني على الملاءمة عندما أعطى للنيابة العامة بالرغم من توصلها بتعليمات وزير العدل الحق في بسط ملاحظاتها بكل حرية لما تراه مفيدا للعدالة.
وحيث أن وضع الاستقلالية التي كانت عليه النيابة العامة في قانون المسطرة الجنائية لسنة 1959 سيتقلص مع التطور السياسي الذي سيعرفه المغرب وسيبدأ مسلسل التقليص بإحداث مبدأ التسلسل الرئاسي بين أعضاء النيابة العامة. أي سيصبح وكيل الملك يمارس سلطة عن نوابه. كما تنص على ذلك الفقرة الثانية من المادة 39 التي لم تكن موجودة في الفصل 37 من قانون المسطرة الجنائية لسنة 1959 كما فصلناه أعلاه.
وهكذا ستخرج النيابة العامة من وضعية الاستقلالية التي عرفتها في إطار قانون المسطرة لسنة 1959 لتنتقل إلى نظام التسلسل الرئاسي الذي يوجد في أعلى هرمه الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف في قانون المسطرة الجنائية الحالي.
وليس غريبا أن التعديلات التي أدخلها قانون المسطرة الجنائية لسنة 2002 على الوضع القانوني للنيابة العامة وذلك بنقلها من وضع الاستقلالية إلى وضع التبعية والتسلسل الرئاسي، ستتوج بسن القاعدة المنصوص عليها في الفصل 51 من قانون المسطرة. الذي حدد علاقة النيابة العامة بالسلطة التنفيذية.
ومن المفيد، من أجل فهم أعمق للوضع القانوني للنيابة العامة أن نقف عند صياغة ومضمون المادة 51 من قانون المسطرة الجنائية لسنة 2002 ومقارنتها مع الفصل 48 من قانون المسطرة الجنائية لسنة 1959.
ذلك أن الفصل 48 من قانون المسطرة الجنائية لسنة 1959 ينص على ما يلي:
“يمكن لوزير العدل أن يبلغ إلى رئيس النيابة العامة ما يصل إلى علمه من مخالفات للقانون “الجنائي وتأمره أن يتابع أو يكلف من يتابع مرتكبيها أو يأمره بأن يرفع كتابة إلى المحكمة “المختصة ما يراه الوزير ملائما من التماسات.
وهذا الفصل لا يتلكم على السياسة الجنائية وبالتالي لا يتكلم على من يضعها. أي أنه يستعمل آلية الغموض لتدبير إشكالية السياسة الجنائية.
بينما تنص المادة 51 من قانون المسطرة الجنائية لسنة 2002، على ما يلي:
“يشرف وزير العدل على تنفيذ السياسة الجنائية ويبلغها إلى الوكلاء العامين للملك الذين “يسهرون على تطبيقها وله أن يبلغ إلى الوكيل العام ما يصل إلى علمه من مخالفات للقانون “الجنائي وأن يأمر كتابة بمتابعة مرتكبيها أو يكلف من يقوم بذلك أو أن يرفع إلى المحكمة “المختصة ما يراه الوزير ملائما من ملتمسات كتابة.
ويظهر بكل وضوح أن الفرق بين الفصلين هو الفقرة الأولى المضافة في المادة 51 من قانون المسطرة الجنائية لسنة 2002 والتي كشف بواسطتها المشرع لأول مرة، عن وجود سياسة جنائية. وعلى أن وزير العدل هو المشرف على تنفيذها وهو الوحيد المؤهل لتبليغها للوكيل العام قصد تطبيقها.
بينما احتفظت هذه المادة بنفس وجه الغموض حول من يضع السياسة الجنائية. إذ أن تلك المادة لم تذكرها بل تكلمت فقط على تنفيذها وتبليغها وأسندت ذلك لوزير العدل. وتكلمت على تطبيقها وأسندت ذلك إلى الوكيل العام. والمقصود هو الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف. خلافا لما سيحمله مشروع قانون المسطرة الجنائي كما سنبين ذلك فيما بعد.
لكن، الفرق بين الفصلين لا يظهر فقط في الفقرة المضافة. ولكن يظهر في بروز دور التسلسل الرئاسي بين وزير العدل والوكيل العام. المتجلي في أن الوكيل العام مهمته هي تطبيق السياسة الجنائية. إذ لم ينص الفصل على أي إمكانية للوكيل العام في عدم تطبيقها.
وهكذا يظهر أن قانون المسطرة الجنائية لسنة 2002 أقر نظاما رأسيا يوجد على رأسه وزير العدل وأسفل الهرم يوجد الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف وبعده يوجد وكيل الملك كرئيس لنوابه.
عندما نقف على هذا المعطى أي أن النظام القانوني للنيابة العامة يخضعها لنظام تسلسلي ورأسي. فإنها تكون قد فقدت استقلاليتها التي كانت لها في قانون المسطرة الجنائية لسنة 1959.
هذا الوضع القانوني يدفعنا الى وضع السؤال التالي: هل نظام التسلسل الرئاسي هذا موجود في نص آخر غير قانون المسطرة الجنائية أم لا.
عندما نعود إلى الفصل 110 والفصل 116 من الدستور نجد أن الدستور تدخل ليدستر هذا التسلسل الرئاسي حسب الصيغة العربية للفصلين معا. لكن في الصيغة الفرنسية من نص الدستور نجد صيغة أخرى إذ تنص الفقرة الثانية من الفصل 110 من الدستور باللغة على ما يلي:
Les magistrats du parquet sont tenus à l’application de la loi et doivent se conformer aux l’instruction écrites, conforme à la loi de l’autorité émanant de l’autorité hiérarchique.
وتنص الفقرة الثانية من الفصل 116 من الدستور بالفرنسية على ما يلي:
Dans les affaires concernant les magistrats du parquet, le Conseil supérieure du pouvoir judiciaire prend en considérations les rapports d’évaluation établis par l’autorité hiérarchique dont ils relèvent.
غير أن الصيغة التي استعملت في الدستور باللغة العربية لم تستعمل كلمة السلطة الرآسية كترجمة لكلمة “‘autorité hiérarchique.” وإنما استعملت كلمة أخرى وهي كلمة ” السلطة التي تتبع لها” و ليس السلطة التي تترأسها.
إن فقدان استقلالية للنيابة العامة هو قابع في ثنايا ما يلي:
1-النظام الرآسي الذي سنته قواعد المسطرة الجنائية والذي أضفى عليه الدستور صفة القاعدة الدستورية الملزمة للجميع. وفقا للفقرة 3 من الفصل 6 من الدستور التي تنص على أن القواعد القانونية وتراتبيتها تعتبر دستورية وهي ملزمة للجميع.
2-الصياغة التي اختارها المشرع الدستوري للفصل 110 و116 وعلى الخصوص الصيغة بالفرنسية.
3- نظام الاتهام المختار والمطبق في المغرب.
4- ما هو العرض الذي يقدمه مشروع المسطرة الجنائية للوضعية القانونية النيابة العامة
إن قراءة المقتضيات الجديدة التي أتى بها مشروع قانون المسطرة الجنائية بخصوص الوضعية القانونية للنيابة العامة تبين انها أسست لوضعية جديدة تتمثل في ثلاثة أوجه وهي: الوضع القانوني الذي أصبح عليه الوكيل العام لمحكمة النقض من جهة. وتمييزه عن رئيس النيابة العامة من جهة ثانية. والكشف عن الجهة التي تضع السياسة الجنائية من جهة ثالثة.
وبخصوص الوضعية القانونية للوكيل العام لمحكمة النقض فإن الجديد فيها هو ان قانون المسطرة الجنائية لسنة 1959 حصر صفة ضباط سام للشرطة القضائية في وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية. كما ان قانون المسطرة الجنائية الجاري به العمل مدد تلك الصفة للوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف.
بينما مشروع قانون المسطرة الجنائية فإنه اتى بمقتضى جديد وهو إعطاء صفة ضابط سام للشرطة القضائية كذلك للوكيل العام لدى محكمة النقض. وذلك بواسطة التعديل الذي ادخله على الفقرة الأولى من المادة 19 من قانون المسطرة الجنائية الجاري به العمل.
فهذا التعديل أتى ليلائم وضعية الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض مع المهام التي اسندتها له المادة 25 من القانون التنظيمي المتعلق بالقانون الأساسي للقضاة الذي صدر بعد صدور قانون المسطرة الجنائية الجار به العمل. ونص التعديل على ان الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض هو الرئيس التسلسلي للوكلاء العامين ولوكلاء الملك ولباقي نوابهم. وبهذه الصفة يمكنه التوجه مباشرة للشرطة القضائية بجميع اصنافها وإعطائها التعليمات المتعلق بالأبحاث القضائية.
ومن المفيد الإشارة الى ملاحظة جديرة بالوقوف عندها وهي التفرقة بين الوضع القانوني في العلاقة مع الحكومة بين كل الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض الذي هو رئيس النيابة العامة. وبين رئيس محكمة النقض الذي هو الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية.
ذلك ان رئيس محكمة النقض بصفته الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية مرتب في وضعية رئيس مجلس النواب طبقا للمادة 13 من القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية. لكن بالرجوع الى الوضعية القانونية للوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيس النيابة العامة نجدها غير مذكور في القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة للقضائية مثل رئيس محكمة النقض. بل منظمة بالقانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة من جهة. ومرتب في وضعية وزير أي في وضعية عضو من الحكومة. وذلك طبقا للمادة31 منه.
وبخصوص تمييز الوكيل العام لمحكمة النقض عن رئيس النيابة العامة فإننا نجده واضحا في المواد التالية:
المادة 1-22 التي تتكلم على انشاء الفرقة الوطنية للشرطة القضية بقرار مشترك لرئيس النيابة مع السلطة الحكومية الإدارية على الفرقة. بدون ان تذكر تلك المادة الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض.
وكذا المادة 1-51 التي تتعلق بالسياسة الجنائية والتي لا ذكر فيها للوكيل العام لمحكمة النقض. وانما تتكلم فقط على رئيس النيابة العامة.
وكذا المادة 51 التي تتكلم فقط على الوكيل العام لمحكمة النقض بدون الإشارة الى رئيس النيابة العامة.
وهنا من العدل اثارة السؤال التالي: هل من المنتظر مستقبلا ان يكون رئيس النيابة العامة شخصية غير منتسبة لسلك القضاء.
إن مشروعية هذا السؤال تجد سندا لها من المادة 22 من القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة والذي ينص على ان جلالة الملك يعين رئيس محكمة النقض والوكيل العام به. لكنها لا تنص على ان هذا التعيين يتم من بين القضاة. خلافا للمادة 50 من القانون التنظيمي للسلطة القضائية التي تنص على ان تعيين الامين العام للمجلس الأعلى للسلطة القضائية يعينه جلالة الملك من بين ثلاثة قضاة. وهو نفس الامر بالنسبة في المادة 53 من نفس القانون التي تتكلم على جلالة الملك للمفتش العام من بين ثلاثة قضاة.
بخصوص الكشف عن الجهة التي تضع السياسة الجنائية, فهو مستجد جدير بالتوقف عليه وهو المستجد المنصوص عليه في المادة 1-51 من المشروع و التي تكلمت لأول مرة في تريخ المغرب على:
1-عرفت المقصود بالسياسة الجنائية بكونها سياسة عمومية.
2-حددت الجهة التي تضعها.
3-أحلت رئيس النيابة العامة محل وزير العدل في الاشراف على تنفيذها. وكلفته بتبليغها الى الوكلاء العامين
4-احتفظت بدور لوزير العدل باعتباره هو من حلقة الوصل بين الحكومة والرئيس النيابة العامة.
5-ألزمت رئيس النيابة العامة بتضمين تدابير تنفيذ السياسة الجنائية من قبله في التقرير المنصوص عليه في 110 من القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية.
هذه القواعد القانونية هي التي ستؤطر مستقبلا السياسة الجنائية. وهو ما سنحاول مقاربتها فيما يلي.
من جهة أولى: فإن مشروع المسطرة الجنائية كشف لأول في تاريخ المغرب على تعريف للسياسة الجنائية وعلى الجهة التي تضع السياسة الجنائية. بينما لم يعرف بها لا قانون المسطرة الجنائية لسنة 1959 ولا قانون المسطرة الجنائية لسنة 2002. الى ان جاءت المادة 1-51 من المشروع وتكلمت على نوعين من السياسة الجنائية. واحدة تشريعية. والأخرى تدبيرية.
وفي تقديري فإن مهندس هذا المشروع أراد ألا يصطدم مع قرار سابق للمحكة الدستورية التي اعتبرت على الاختصاص في وضع السياسة الجنائية يعود للسلطة التشريعية.
ولفد اختار مهندس المشروع مخرجا مشرفا عندما ميز بين السياسة الجنائية التشريعية أي التي تصدر في شكل قوانين عن السلطة التشريعية. وبين السياسة الجنائية التي تشمل القواعد والتدابير التي تخذها الدولة في مجال مكافحة الجريمة والوقاية منها. كما هو منصوص عليه في القرة الأولى من المادة 1-51 .
هذه الفقرة لا يمكن قراءتها بمعزل عن الفقرتين الثالثة والرابعة من نفس المادة. واللتين ورد فيهما ما يلي:
“كما يشرف رئيس النيابة العامة على تنفيذ السياسة الجنائية المتربطة بالسياسات العمومية التي تضعها “الحكومة و يبلغها له وزير العدل.
“يضمن رئيس النيابة العامة الإجراءات و التدابير لتنفيذ السياسة الجنائية في التقرير الذي يعده في “\طار المادة 110 من القانون التنظيمي رقم 100.13 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية.
هذه الفقرات تبين التحول الذي ستعرفه النيابة العامة لأنها اخرجتها من المجال المغلق الذي وجدت فيه بعد قانون 33.17 الذي نقل لرئيس النيابة العامة اختصاصات وزير العدل في الدعوى العمومية. وهو المجال الذي تمثل في عدم مناقشة القضايا المرتبطة بالعدالة أمام البرلمان. لكن بعدما سيصبح رئيس النيابة العامة ملزما بتضمين إجراءات وتدابير تنفيذ السياسة الجنائية في التقرير الذي يلقى امام لجنتي العدل في البرلمان, فإن هذا المستجد سيؤدي , في تقديري الى:
1-عودة صلاحية البرلمان في التداول ومناقشة قضايا العدالة كما كان الامر قبل ان تنقل اختصاصات وزير العدل الى رئيس النيابة العامة. وذلك عن طريق مناقشة تقرير رئيس النيابة العامة المنجز التي سيلقى اما لجنتي العدل في البرلما.
2-هذه المادة ستحل الاشكال الذي طرح حول من يجب عليه ان يلقي تقرير رئيس النيابة العامة امام لجتي العدل بالبرلمان. بعدما تمسك رئيس النيابة العامة بكون القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية الذي قدمته الحكومة السابقة لم ينص على ان ذلك التقرير يجب على رئيس النيابة العامة ان يحضر شخصيا ويلقيه امام لحنتي العدل بالبرلمان.
وأعتقد ان هذا الاشكال قد يحل إما عن طريق تكليف وزير العدل بإلقاء ذلك التقرير أمام لجنتي العدل بالبرلمان باعتباره هو حلقة الوصل بين الحوكمة و البرلمان. ولأنه هو الذي سيبلغ السياسة الجنائية التي تضعها الحكومة الى رئيس النيابة العامة. او باعتباره ينوب على رئيس الحكومة في عرض السياسة الجنائية على البرلمان باعتبارها سياسة عمومية. كما تنص على ذلك المادة 1-51 م المشروع. وذلك طبقا للفصل 101 من الدستور الذي ينص على رئيس الحكومة يعرض على البرلمان حصيلة عمل الحكومة وتخصص جلسة لمناقشة السياسات العمومية التي ستصبح السياسة الجنائية من بينها مثل باقي القطاعات الأخرى..
وللحديث بقية
التعليقات مغلقة.