كشفت نتائج الإحصاء العام للسكان والسكنى، الذي جرى في شهر شتنبر 2024، عن العديد من المؤشرات والمعطيات البالغة الأهمية، وهي مؤشرات تستحق الدراسة والتحليل لتقييم السياسات العمومية والبرامج الاقتصادية والاجتماعية على مدار العشر سنوات الماضية، نظرا لغزارة المعلومات وأهميتها، وسنكتفي في هذا المقال بالحديث عن بعض المعطيات الإحصائية المرتبطة بالدولة الإجتماعية التي جاء بها البرنامج الحكومي، وبعيدا عن مفهوم الدولة الاجتماعية وفق الأدبيات المعرفية والعلمية، سواء تعلق الأمر بالمرجعية الليبرالية أو المرجعية الإشتراكية في هذا الموضوع، وبمقارنة بسيطة وبدون الخوض في فلسفة الدولة الاجتماعية وتعاريفها، نجد أنّ الدولة الإجتماعية تقوم على أساس المقومات التالية :
. حماية القدرة الشرائية للمواطن
. الحفاظ على الشغل الموجود وإيجاد فرص تشغيل جديدة كل سنة
. خفض نسبة البطالة لمعدل يتناسب مع القوة العاملة القادرة عن العمل
. تحقيق نسبة متصاعدة للنمو الاجتماعي وليس النمو الاقتصادي بالنسبة لجميع فئات المجتمع
هذه معايير محددة ومعتمدة في العديد من الدراسات والأبحاث، وهي معتمدة من طرف منظمات دولية. وبالعودة إلى الدولة الاجتماعية المعلنة في البرنامج الحكومي فإنها اعتمدت على مؤشرين فقط هما :
1. التغطية الصحية (الحماية الإجتماعية)
2. الدعم المباشر ( المخصص للأسر )
وهذان المؤشران يدخلان فقط ضمن الخدمات الصحية والمساعدات الإجتماعية، ولا يرتبطان بالضرورة بمفهوم الدولة الاجتماعية بمرجعياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية المختلفة وكذلك المراجع الفكرية والأدبية.
. بالنسبة للتغطية الصحية (الحماية الاجتماعية) فهي خدمة اجتماعية عادية يجب توفرها تلقائيا وبشكل عادي دون إدخالها في مفهوم الدول الاجتماعية، كما هو موجود مثلا في دول الإتحاد الأوروبي، وخصوصا في فرنسا، وبخصوص التغطية الصحية الشاملة التي تم الإعلان عنها، فإنها لازالت في بدايتها، ولا أريد هنا أن أدخل في نسب التغطية الصحية المختلف عليها جدا، رقميا وعمليا، والتي تشمل الفئات المستهدفة،
كما جاء في تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، والذي أكد بأنه
لحد هذه السنة ما يزال نحو 8,5 مليون من المواطنات والمواطنين خارج دائرة الاستفادة من هذه الحماية الصحية، وإنما أريد أن أشير هنا إلى الجانب العملي في التغطية الصحية التي يعيشها المواطن المغربي في المستشفيات العمومية بشكل يومي، والتي لازالت بعيدة كل البعد عن استعاب نحو 11 مليون مستهدف بالحماية الاجتماعية .
. أما بخصوص الدعم المباشر المخصص للأسر الذي أعتبر مؤشرا مرتبطا بالدولة الإجتماعية بالمغرب، فهو يقوم على أساس دعم الأسرة وليس الأفراد، وكذلك على أساس أن مفهوم الأسرة المتفق عليه هو أربعة أفراد في الأسرة، وهذا ماتعمل به المندوبية السامية للتخطيط، وعليه، فإن الدعم المعلن العادي المخصص للأسرة المغربية المستهدفة هو مبلغ 500 درهم شهريا، والذي يكفي فقط لزيارة طبيب خاص مرة واحدة في الشهر في حالة حدوث ظروف صحية صعبة ، بالإضافة إلى أن هذا الدعم هزيل، فهو يخضع لمؤشر غير قار يشبه الزئبق، يظهر ويختفي من حين لآخر لأسباب لايستوعبها أحد، مما خلق عدم استقرار إجتماعي ونفسي لدى الأسر المستهدفة، وبالتالي فإن هذا الدعم الضعيف الغائب الحاضر، لايمثل الدولة الإجتماعية المعلن عنها في البرنامج الحكومي لا من قريب ولا من من بعيد، ولا إعتبار له في أي دولة في العالم على أنه مؤشر للدولة الإجتماعية، كما أن الدعم يجب أن يكون كمرحلة إنتقالية مؤقتة للبحث عن العمل، ولا يجب أن يعتمد بصفة دائمة، وهذا ماصرح به والي بنك المغرب مؤخرا، بل إنه حذر من ديمومة هذا النوع من المساعدات، مؤكدا أنها قد تؤدي إلى إعتماد المواطنين عليها بشكل سلبي دون المساهمة في تقليص نسب البطالة أو تعزيز فرص التشغيل المتاحة، وقد يصبح عبأ على ميزانية الدولة في المستقبل ، وقد يتجاوز بكثير المبلغ المرصود لصندوق المقاصة الذي كان يرهق ميزانية الدولة سابقا.
للإشارة فإن توجيهات جلالة الملك محمد السادس نصره الله قد ركزت في مرحلة وباء كورونا على التغطية الاجتماعية الشاملة بمفهومها المجالي والاجتماعي ، ليتمكن كل مواطن مغربي من الحصول على العلاج المناسب حماية للمجتمع المغربي من الأمراض المختلفة، لكن تنزيل هذه التوجيهات لم تتم بالطرق الصحيحة والفعالة، وفي نفس الوقت أمر جلالة الملك بتقديم الدعم المباشر أثناء محنة كورونا، لأن معظهم العاملين في القطاع الخاص فقدوا مصدر رزقهم، وكانت فلسفة الدعم المباشر ترمي إلى خلق برامج إقتصادية موازية للأسر ولأفرادها حتى لايبقى الدعم المباشر دائما، بل يصبح مساعدا لإيجاد عمل قار، لكن مع الأسف لم يحدث ذلك، لأن البرامج التي صيغت للتخفيض من البطالة هي نفسها البرامج السابقة بأسماء قديمة حديثة (فرصة ، إنطلاقة ….)، بل أن الالاف من المقاولات الصغرى والمتوسطة أعلنت إفلاسها ، لكن ليس عيبا أن نعيد النظر في تقديم الخدمات الإجتماعية، أو البحث عن صيغة جديدة للدولة الاجتماعية وفق التوجيهات الملكية السامية، وربطها بالدولة الاقتصادية المنشودة، لأنه بدون تقوية الدولة الاقتصادية عن طريق تحقيق نمو الاقتصادي لايقل عن 5%، لايمكن الذهاب بعيدا في تنزيل مفهوم الدولة الاجتماعية المعلن عنها ، لأنها تحتاج إلى بنية إقتصادية ورؤية واضحة ووقت كاف لإنجاحها .
. أما مقومات الدولة الاجتماعية بمرجعيّاتها المختلفة، فتركز على مؤشرات متعددة، نذكر هنا في هذا المقال مؤشرين فقط لارتباطهما بنتائج الإحصاء العام للسكان والسكنى لسنة 2024 :
أولا : حماية القدرة الشرائية للمواطنين، وهي جزء من الدولة الاجتماعية لأنها توفر القوت اليومي للمواطنين سواء كانوا عاطلين أو عاملين، ونعرف جيدا العلاقة التناسبية بين القدرة الشرائية وبين الأجور، حيث كلما ارتفعت القدرة الشرائية نقصت الأجور عمليا، لكن مع الأسف، فلحد الآن، وبعد مرور أكثر من ثلاثة سنوات على إعلان الدولة الإجتماعية، لم تتم حماية القدرة الشرائية للمواطن للأغلب فئات المجتمع.
ثانيا : أن الإعلان عن 21٪ من البطالة من خلال نتائج الإحصاء العام للسكان والسكنى الأخير الذي جرى شهر شتنبر 2024، كان متوقعا ومفاجئا في نفس الوقت، وهذا الرقم ليس ناتجا عن عينات مختلفة الزمان والمكان كما يحدث في بعض الدراسات عن طريق بعض العينات ، ولكنه إحصاء عملي ميداني شمل كافة جهات المملكة، وبالتالي فهو يمثل رقما حقيقا في معدلات البطالة التي فشل البرنامج الحكومي في خفضها، وفي هذا الإطار أكد السيد والي بنك المغرب أن بطالة الشباب الذين تتراوح أعمارهم مابين 16 و25 سنة تصل نسبتها إلى 50%، والوتيرة لازالت في إرتفاع مستمر، ويبقى العلاج هو تفعيل مبادئ الدولة الاقتصادية عن طريق رفع نسبة النمو وزيادة الناتج الوطني الخام وتوزيع الثروة بأداء الضريبة العادلة.
يبدو أن الأرقام والمؤشرات الرسمية الخاصة بنتائج الإحصاء العام للسكان والسكنى لسنة 2024 التي تم الإعلان عنها، تستوجب إعادة النظر في الكثير من السياسات العمومية ببلادنا، ولنا عودة إلى الموضوع بالتفصيل.
الحسن عبيابة.. أستاذ جامعي.. ووزيرسابق