يعرف العالم العديد من التحولات السياسية والإقتصادية والإجتماعية بشكل كبير وسريع جدا، لدرجة أن ما كان يتصوره البعض مستحيلا أصبح ممكن ، وما كان يتصوره ممكن أصبح مستحيلا ، وإذا كانت هذه التحولات المختلفة تفجأ الجميع فإن التحولات الجيوسياسية الجديدة أخذت حجما كبيرا من هذا التحول التاريخي، ومن المؤكد أن هذه التحولات جميعها تتطلب وعيا جديدا وعميقا للتعامل مع الأحداث ومع الدول والشعوب في جميع أنحاء العالم، هذا الوعي يجب أن تدركه النخب السياسية والإقتصادية والثقافية وتنقله بهدوء إلى فئات المجتمع المختلفة ، وهذا ما يجب أن يحدث في بلادنا العزيزة .
لقد ورثنا جميعا منذ نهاية الحرب العامية الثانية “ديموقراطية الأغلبية والمعارضة” التي تنتجها صناديق الإقتراع عبر تصويت الناخبين، وطبعا يجب إحترام هذا النظام لكونه لازال ساري المفعول في العالم وليس له بديل لحد الآن ، والمغرب بدولته ومؤسساته السياسية والسيادية قطع شوطا كبيرا في مجال الديموقراطية التمثيلية رغم عدم حسن تدبيرها أحيانا من طرف الجميع .
وهنا لا أتكلم عن مهام وأدوار الأغلبية الحكومية الحالية لأنها تستكمل ولايتها بين النجاح والإخفاق في تنزيل البرنامج الحكومي ، لكن دورها الدستوري تقوم به لتدبير المؤسسات الحكومية والبرلمان ، لكن سأتحدث هنا عن دور المعارضة بأنواعها المختلفة بالمغرب، إذا كانت الأغلبية يؤطّر عملها الدستور المغربي فالمعارضة كذلك ، والاخيرة خاضعة للدستور في تعاملها وتأطيرها للمواطنين ، وكذلك في مواقفها السياسية، لا أحد فوق دستور البلاد، لكن ما تم تسجيله في الآونة الآخيرة ، هو تحول بعض المعارضات من معارضة البرامج الحكومية وتقييمها إلى معارضة الدولة ومؤسساتها والعودة إلى الخطابات الشعبوية، والتحدث بمضامين سياسية وفكرية خارج الثوابت الوطنية وخارج الهوية المغربية ، كما تم إستيراد أفكار وأحداث من خارج الحدود والإستشهاد بها وخلق منها مواقف سياسية داخلية .
هذه السلوكات التي تمثلت في العديد من التظاهرات الشعبية في أوقات متقاربة جدا وفي مدن مختلفة ، حيث شاركت فيها أحزاب من المعارضة ومن أطياف وتيارات مختلفة لحد الآن ليس هناك مانع من مساندة الشعب الفلسطيني، فالمغرب بلد متضامن مع الشعب الفلسطيني سياسيا وتاريخيا أكثر من غيره من باقي شعوب العالم، لكن الغير مقبول تماما ، هو تحول هذه التظاهرات من عملية تضامنية مع الشعب الفلسطيني إلى معارضة سياسية ضد مؤسسات البلاد وضد رموزه ، والمطالبة بفرض مواقف سياسية خارج السياق الوطني والدولي ، والتدخل في مؤسسات الدولة بشكل فج وغير لائق ، وهكذا تحول التضامن مع القضية الفلسطينية إلى إستعداء مؤسسات الدولة ورموزها .
هنا سأعود إلى الفقرة التي ذكرتها سابقا وهي أن المرحلة الحالية دوليا تتطلب وعيا عميقا من الشعوب لكي لا تدمر نفسها بنفسها سواء أدركت ذلك أم لم تدركه ، وقد تزامنت التظاهرات الشعبية تضامنا مع الشعب الفلسطيني، مع وضعية وطنية في غاية الأهمية، وهي مرحلة الحسم التي تمر بها القضية الوطنية على مستوى الأمم المتحدة ، حيث يتربص أعداء المغرب شرقا وغربا لإستغلال أي وضع سياسي داخلي لو مصطنع للنيل من المغرب كدولة وكمؤسسات ، وهذا ما تم فعلا فقد تم إستغلال التظاهرات الشعبية بالمغرب بحمولتها السياسية والعاطفية شر إستغلال إعلاميا وسياسيا من طرف أعداء المغرب الظاهر منهم والباطن ، إن مفهوم الدولة الوطنية يحكمها الدستور والقانون، ولا تحكمها عوامل سياسية خارجية أبدا على الإطلاق ، فلا يمكن لأشخص أن يعيش في دولة ذات حدود جغرافية سيادية معينة وهوية تاريخيّة ووطنية ، ويعيش بأفكار سياسية لدول أخرى ، هذا شرود مرفوض على جميع الأصعدة ، فالقضية الفلسطينية قضية المغاربة تاريخيا وسياسيا، والدولة دون غيرها هي التي تتعامل مع القضية بروح وطنية لمصلحة الشعب الفلسطيني ، كما أن القضية الفلسطينية هي قضية سياسية وليست قضية دينية كما يتصورها البعض ، لأن الأمر يتعلق بشعب يريد بناء دولته الفلسطينية المستقلة وهذا من حقه والمغاربة معه ،
ومن جهة أخرى يبدو أن التظاهرات أيضا أخذت بعدا سياسيا داخليا وهي محاولة للعودة إلى المشهد السياسي مع إقتراب موعد الانتخابات البرلمانية المقبلة 2026، طمعا في إستمالة الناخبين المفترضين ، إن مخرجات الديموقراطية في النهاية أصوات وليست خطابات سياسية أو شعبوية ، وللتذكير فأن الإنتخابات من الآن فصاعدا لا تحسم بالناخب فقط ، وإنما بعدة عوامل أهمها القوانين الإنتخابية والجانب اللوجيستي وتأثير الخطاب السياسي المحلي وليس الدولي وكذلك المصالح المحلية للأفراد والجماعات بالإضافة إلى عملية القرب والبعد من مكاتب التصويت ، وكذلك احترافية الحملات الانتخابية البراكماتية .
ويبدو أن بعض الأحزاب من الأغلبية الحالية قد خلقت بنية إنتخابية قوية من حيث العدد والإنتشار وتوفير الدعم اللوجستي ، بمعنى أن حزبين من بين ثلاثة أحزاب الأغلبية الحالية يمكن أن يحرك نفس البنية الإنتخابية البشرية مع زيارة 10%, ليحصل على 1,5 مليون ناخب بأريحية كبيرة ليقود الحكومة المقبلة ، وبالتالي فإن الخطاب السياسي البراكماتي لمخاطبة الناخبين سيصبح هو المتحكم في الإنتخابات البرلمانية المقبلة .
الدكتور الحسن عبيابة.. رئيس مركز إبن بطوطة للدراسات والأبحاث العلمية والإستراتجية