د. خالد فتحي: فرنسا اليمينية تطل بقرنها على العالم ، بل بقرنيها معا ؛ مارين لوبين، وجوردان بارديلا. وهناك قرن ثالث هو إيريك زمور، ذاك السياسي المتعصب، الذي يعوض قزامته حزبه بالدخول في حمى أشقائه اليمينيين المعتقين.
الأنصار والمتعاطفون الذين تجمعوا في باريس البارحة للاستماع لخطاب مارين، كلهم قدموا بعد ان شربوا حليب السباع. لم يهتفوا بحياة التجمع الوطني، وإنما هتفوا، وقد حلت عقدة لسانهم بعد إسقاط حكومة بايرو، بمارين لوبين رئيسة لفرنسا.
كأنما يستعجلون الانتخابات الرئاسية، على اعتبار أن الأزمة السياسية غير المسبوقة ببلد الأنوار لم يعد لها من حل آخر في نظرهم غير العودة إلى صناديق الاقتراع. أو كأنما قد بدؤوا من الآن في الانتقال، على عادة اليمين الجذري، من الولاء للمؤسسة الحزبية إلى الولاء للزعيمة، أي إلى ما يمكن أن نطلق عليه، ب “تحذلق” تعبيري؛ عبادة الشخصية.
هم واثقون كل الثقة من النصر…، لا يساورهم أدنى شك في ذلك. ليس لأن الحل السحري بجعبتهم، ولكن لأنهم يرون أنهم يمثلون الوصفة التي لم تجرب إلى حدود الآن، زد على أن طالع التيارات القومية في إقبال هذه الأيام بكل أوروبا الغربية، خاصة بعد صعود ترامب في الولايات المتحدة، وبروز الشرق كبديل للهيمنة الغربية على العالم.
في تعليق له على استعراض القوة الحاشد هذا، قال إيريك زمور، إن تجمع مارين لوبين لا يعادله في حماسه وحجم تعبئته إلا التجمعات الجماهيرية الاستثنائية التي كان يخطب فيها شارل ديغول بجادة الإليزيه. كأن هذا المنظر الراديكالي يوظف المجاز في غير موضعه، ليغري الفرنسيين بأن مارين لوبين هي المرأة التي أرسلتها الأقدار، لكي تؤسس لهم الجمهورية السادسة، بالضبط كما أسس ديغول الجمهورية الخامسة. إنه يضفي، في خضم هذا المجرى الصعب الذي سارت فيه السياسة الفرنسية ، على صعود اليمين المتطرف طابعا صوفيا يزيد من ترقب الجماهير له كحدث قادم لا مناص من وقوعه.
خطاب اليمين الفرنسي يجد صدى كبيرا لدى الفرنسيين المأزومين من سياسات ماكرون، أو من نتائج ماكرون على أدق تعبير. ففي اللحظات العصيبة، التي تتيه فيها بوصلة الشعوب، تتجه هذه الأخيرة إلى من يمدها بعلامات، وبمرجعيات، تدغدغ مزاجها، تسلبها بصيرتها، وتغازل فيها جيناتها الدفينة.
فرنسا العلمانية تتذكر هذه الأيام جذورها المسيحية. هذه الجذور التي، وإن ضمرت تحت سنابك اللائكية، والحداثة، وسيولة وميوعة ما بعد الحداثة، تنتعش من جديد لتعطي للغرب “معنى” ملموسًا يتحلق حوله، بكل ما يعنيه ذلك من يقين متوهم، ومحافظة افتقدها، ومن صليبية مضمرة كذلك. إنها عودة التاريخ بكل تفاصيله.
اليمين الفرنسي يرى أن المستعمرات القديمة قد ثأرت لنفسها ، ونجحت في ان تستعمر فرنسا، وأنها هي أصل هذا البلوى. فهي تنشر فيها الإسلام انتقامًا منها، بل إنه ليرى أن المهاجرين المسلمين في طريقهم إلى إنجاز ما يسميه “الاستبدال الكبير”.
وهكذا ينبري أقصى اليمين إلى إحياء عقيدة قديمة سبق وأن جربت، وكلما وأينما كانت تجرب، كانت لا تجلب للعالم الا الويلات… إنه يعتبر أن الآخر هو المسؤول عن الكوارث التي تسقط تباعًا على رأس الفرنسيين. ويعلن أن عليه أن يتصدى لهذا الغزو أو الاختراق أو الفتح الذي لم يأت حسبه على أسنة السيوف والرماح، بل على أسنة الديمغرافيا المسلمة التي سرقت رخاءهم ومناصب الشغل لديهم، ودفعت أنظمتهم الاجتماعية إلى الإفلاس، وأوصدت أبواب المستقبل في وجوه الأجيال المقبلة.
فالأفارقة والعرب “الفرنسيون”، حسب رأيهم، يتوالدون بنسب مستفزة، ولذلك يوجد في صفوف هذا اليمين اليوم بفرنسا من يعتبر أن أرحام المسلمات هي التهديد الأكبر لما تبقى من فرنسا… إنه ليزعجهم أن المرأة القادمة من شمال أفريقيا تلد ثلاثة إلى أربعة أطفال، بينما لا تجاريها المرأة الفرنسية إلا بطفل ونصف طفل بالكاد، وهي نسبة لا تضمن تجدد العرق الفرنسي “الأصيل”. إنها عنصرية مقنعة بثوب الإحصائيات لا يملون من ترديدها هناك على بلاطوهات التلفزات.
فرنسا تنزلق بثبات نحو فاشية لا زالت رغم كل شيء ناعمة إلى اليوم، والتي قد تنقلب إلى خشنة غدا إذا ما تسلم اليمين المتطرف السلطة، سواء فيها أو في غيرها من الدول المحورية بالاتحاد الأوروبي.
فرنسا اليوم ليست مأزومة سياسيًا وحسب، بل مأزومة وجوديًا وهوياتيا كذلك. لم تعد تعرف كيف تعرف نفسها. الخطاب المحرض لليمين يجد أرضا خصبة يرتع فيها على هواه. ففي لحظات القلق الجماعي، يقع النظر نحو الماضي حين نظن أننا ننظر إلى المستقبل. وهنا يظهر هذا اليمين ب “وطنيته”، لكي يبيع “الطمأنينة التاريخية” للشعب، ولسان حاله يقول: سنعيد لكم فرنسا “البيضاء”، لكن علينا أولًا أن نقصي “الدخلاء”.
صعود لوبين الجماهيري اليوم، والرسمي غدًا، ليس ظاهرة فرنسية منعزلة… ألمانيا تعيش صعود “البديل من أجل ألمانيا”، وإيطاليا تحكمها جورجيا ميلوني، وهولندا تضع قدمها في بوابة اليمين المتطرف. اليسار الفرنسي والأوروبي ككل، في المقابل، يتخبط في خطاب هوياتي منفصل عن الشارع، لقد مسخته الليبرالية المتوحشة إلى مجرد رجع صدى لمطالب الأقليات، فصار متنكرا لحواضنه الشعبية، فيما الوسط السياسي يتأرجح بين المعسكرين، ذائبا في حسابات التكنوقراط والأغنياء.
إذا ما فازت مارين لوبين أو بارديلا في انتخابات 2027، او احدهما بالرئاسة قبل هذا التاريخ .فإننا لن نكون فقط أمام انتقال للسلطة أو حتى تناوب ديمقراطي، بل أمام تحول بنيوي في فكرة الجمهورية الفرنسية. لن تكون الجمهورية السادسة تلك التي يحلم بها أنصار العدالة الاجتماعية والتعددية، بل ستكون “جمهورية الخوف”، حيث المواطنة تختبر يوميًا بناءً على الاسم الذي تحمله، والدين الذي تعتنقه، والهوية التي كانت لأبيك، وعدد الأطفال الذين أنجبتهم أمك.
اليمين الفرنسي الجذري القادم لا يملك حلولًا سحرية للأزمة الاقتصادية، ولا مفاتيح المعجزة الاجتماعية. لكنه يقدم “عدوا سهلا” يحمله كل أوجاع الفرنسيين. وبدل أن يطرح مشروعا للمستقبل، يحمل مشروعًا نكوصيا في تضاد تام مع شعارات الثورة الفرنسية. إنها لحظة فارقة. إما أن تنقذ فرنسا نفسها بتجديد مشروعها الجمهوري، أو تتركه يختطف باسم “الوطنية”، بينما كل ما في الأمر هو كراهية الآخر، مغلفة بعلم ثلاثي الألوان.