في تقرير للمجلس الأعلى للسلطة القضائية برسم سنة 2024

0

يُعَدّ ورش تخليق المنظومة القضائية أحد المرتكزات الأساسية لترسيخ الأمن القضائي وتعزيز ثقة ‏المواطن في جهاز العدالة، باعتباره حجر الزاوية في بناء مجتمع يسوده الإنصاف والشفافية. وانطلاقاً ‏من مسؤوليته الدستورية في تدبير شؤون العدالة، جعل المجلس الأعلى للسلطة القضائية من هذا ‏الورش أولوية قصوى في المرحلة الراهنة، واعتبره مدخلاً محورياً لإصلاح شامل ومستدام للمنظومة ‏القضائية‎.‎
ولتنزيل هذه الرؤية الاستراتيجية، اعتمد المجلس مقاربة مندمجة للتخليق تقوم على ثلاثة محاور ‏متكاملة‎: ‎المقاربة التحسيسية والمقاربة التأطيرية ذات البعد الوقائي الهادفة إلى نشر ثقافة النزاهة ‏وترسيخ قيم الاستقامة في الممارسة اليومية، والمقاربة التأديبية ذات الطابع الزجري الموجهة لمعالجة ‏السلوكات المخالفة وتجسيد مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة‎.‎
ويمثل هذا التوجه المتعدد المنافذ آلية عملية لضمان الالتقائية بين مختلف المبادرات، إذ يعمل ‏المجلس، من خلال المفتشية العامة للشؤون القضائية باعتبارها ذراعه التنفيذي، على تكثيف عمليات ‏التفتيش والبحث والتحري، بما يعزز الصرامة والشفافية في تدبير الشأن القضائي. وبهذا المسار، يسعى ‏المجلس إلى إرساء دعائم قضاء نزيه، مستقل، وفاعل، قادر على كسب ثقة المتقاضين والمجتمع على حد ‏سواء‎.‎
 المقاربة التحسيسية والتأطيرية: بوابة لترسيخ قيم النزاهة ‏القضائية
يولي المجلس الأعلى للسلطة القضائية أهمية كبرى للمقاربة التحسيسية والتأطيرية باعتبارها ‏أحد الركائز الأساسية لورش تخليق العدالة، إذ تقوم على نشر ثقافة الأخلاقيات القضائية والتعريف ‏بمضامين مدونتها، من خلال الندوات والورشات العلمية، وإصدار دوريات توجيهية ذات بعد تأطيري، ‏فضلاً عن تفعيل دور لجنة الأخلاقيات واتخاذ تدابير مواكِبة لمعالجة بعض الاختلالات المرصودة، ‏خصوصاً في مجالي التصريح بالممتلكات ونشر العقوبات التأديبية‎.‎
أ‌-‏ ندوات وبرامج تكوينية
في هذا السياق، استفاد الملحقون القضائيون للفوج 47 من برنامج تكويني متكامل حول مدونة ‏الأخلاقيات القضائية، أشرفت عليه لجنة الأخلاقيات ودعم استقلال القضاة، بالتنسيق مع قطب ‏التكوين بالمجلس وإدارة المعهد العالي للقضاء. البرنامج جمع بين المحاضرات النظرية والورشات ‏التطبيقية ودراسة حالات عملية، وركز على خمسة محاور رئيسية، شملت البعد الدولي والوطني ‏للأخلاقيات القضائية، المبادئ المؤطرة لها، التطبيقات العملية، آليات التنزيل، فضلاً عن التحديات ‏المرتبطة بها‎.‎
ب‌-‏ لقاءات فردية وجهوية
لم تقتصر جهود لجنة الأخلاقيات ودعم استقلال القضاة على التكوين، بل امتدت إلى عقد ‏لقاءات تواصلية فردية مع بعض القضاة الذين وردت بشأنهم تقارير تتعلق بمجال الأخلاقيات، بناءً ‏على توصية من المجلس. الهدف لم يكن مساءلة أو محاسبة، بقدر ما كان توجيهياً وإصلاحياً، يسلط ‏الضوء على بعض السلوكيات أو الظروف الشخصية التي قد تؤثر في الأداء المهني، مع تذكير القضاة ‏بضرورة التوازن بين حياتهم الخاصة ومهامهم المهنية، واستحضار قاعدة “المراقب المعتدل” التي تفرض ‏على القاضي أن يتصرف بما يعزز ثقة المجتمع في نزاهته واستقامته‎.‎
كما نظمت اللجنة خلال سنة 2024 ثلاثة لقاءات جهوية بارزة: الأول بالدار البيضاء حول موضوع ‏‏”الضوابط السلوكية وأثرها على وضعية القاضي الفردية”، والثاني بمكناس حول موضوع “مبادئ ‏مدونة الأخلاقيات ورهانات التنزيل”، والثالث بمحكمة الاستئناف التجارية بالدار البيضاء حول ‏موضوع “تأطير السلوك القضائي”. وقد شكلت هذه اللقاءات فرصة للنقاش المفتوح مع القضاة، ‏وتبادل التجارب والتحديات المرتبطة بالتنزيل العملي لمدونة الأخلاقيات‎.‎
ت‌-‏ دور مستشاري الأخلاقيات
إلى جانب لجنة الأخلاقيات، يضطلع مستشارو الأخلاقيات بدور محوري على مستوى الدوائر ‏الاستئنافية، حيث أوكلت لهم مهمة التوجيه والتوعية وتقديم المشورة للقضاة في حال مواجهة ‏صعوبات في تنزيل المقتضيات الأخلاقية، مع ضمان سرية الاستشارات. ‏
وخلال سنة 2024، عقد هؤلاء المستشارون لقاءات وموائد مستديرة أثمرت إعداد 35 تقريراً ‏أُحيلت على لجنة الأخلاقيات، همّت قضايا متعددة، وعكست انخراطاً متزايداً في تكريس قيم النزاهة‎.‎
ث‌-‏ التصريح بالممتلكات
في إطار تعزيز الشفافية، فعّل المجلس اللجنة المكلفة بالفحص المنتظم لتصريحات القضاة ‏بممتلكاتهم ومداخيلهم، باعتبارها آلية دستورية لتخليق الحياة العامة. وقد واكب المجلس هذه العملية ‏عبر دوريات توجيهية، أبرزها دورية تحت عدد 23.04 بتاريخ 26 يناير 2023 التي نبهت القضاة إلى بعض ‏الاختلالات المرتبطة بالتصريحات، داعياً إياهم إلى التقيد الصارم بالقواعد القانونية‎.‎
ج‌-‏ نشر المقررات التأديبية
بالإضافة إلى مختلف الإجراءات التي اعتمدها المجلس من أجل تعزيز المقاربة التخليقية، اعتمد ‏منذ 2021 نشر مقرراته التأديبية بعد حذف هوية القضاة المعنيين، وذلك لتكريس الشفافية، ‏وتحسيس الجسم القضائي بالسلوكيات المخالفة الواجب تفاديها. ومع نهاية 2024، بلغ عدد المقررات ‏المنشورة 108 مقررا تأديبيا، تضمنت اجتهادات هامة رسخت مبادئ تتعلق بالإخلال بالواجبات المهنية ‏والأخلاقية، وكذا تفسير بعض القواعد المؤطرة للمسطرة التأديبية‎.‎
وقد شددت هذه المقررات مثلاً على ضرورة الحرص على تدبير الزمن القضائي، والتطبيق السليم ‏للقانون، والتعليل الدقيق للأحكام، معتبرة أن أي تهاون أو إهمال يعد خطأ جسيماً. كما تناولت أيضا ‏قضايا تمس بوقار القاضي وشرفه، مثل الارتشاء أو السلوكيات التي تسيء لسمعة القضاء، مؤكدة أن ‏هذه الأفعال لا تقبل التساهل وتستوجب أقصى العقوبات‎.‎
وبذلك، يتضح أن المقاربة التحسيسية والتأطيرية التي اعتمدها المجلس الأعلى للسلطة القضائية ‏لا تقتصر على الجانب التوعوي أو البيداغوجي، بل تشمل أيضاً آليات عملية زجرية، لتشكّل منظومة ‏متكاملة هدفها ترسيخ ثقافة النزاهة والشفافية داخل الجسم القضائي، وضمان قضاء مستقل ‏وفاعل، يستجيب لتطلعات المجتمع ويعزز الثقة في العدالة‎.‎
 المقاربة التأديبية… صرامة في التطبيق لضمان نزاهة القضاء
يرتكز عمل المجلس الأعلى للسلطة القضائية في شقه التأديبي على مبدأ الحزم والصرامة في ‏مواجهة كل إخلال أخلاقي أو مهني صادر عن القضاة، انسجاماً مع رسالته الدستورية في تخليق منظومة ‏العدالة وتعزيز ثقة المجتمع في القضاء. ويعتمد المجلس في تنزيل هذه المقاربة على ترسانة قانونية ‏متينة، تتقدمها آليات المفتشية العامة للشؤون القضائية، المخولة بموجب القانون 38.21 إجراء ‏الأبحاث والتحريات بأمر من الرئيس المنتدب، إلى جانب تتبع وتقدير ثروة القضاة وأسرهم بعد موافقة ‏المجلس‎.‎
أ‌-‏ ارتفاع وتيرة الأبحاث والتحريات
خلال سنة 2024، فتحت المفتشية العامة 179 ملفاً جديداً للبحث والتحري، فيما أنهت أبحاثها ‏بشأن 208 ملفات رُفعت تقاريرها النهائية إلى الرئيس المنتدب، ليحيلها بدوره على لجنة التأديب طبقاً ‏للقانون التنظيمي للمجلس. كما كُلفت المفتشية بتتبع ثروة 9 قضاة وتقدير ثروة 12 آخرين، في تراجع ‏ملحوظ عن السنوات الثلاث السابقة، حيث كان العدد أكبر بكثير (21 حالة تتبع الثروة سنة 2021 ‏مقابل 9 فقط سنة 2024)‏‎.‎
ب‌-‏ لجنة التأديب: طفرة في حجم الملفات
شكلت سنة 2024 محطة فارقة من حيث عدد التقارير المعروضة على لجنة التأديب. فبعدما لم ‏يتجاوز عدد القضاة موضوع تقارير سنة 2021 ثمانين قاضياً تقريباً، قفز العدد سنة 2024 إلى 1324 ‏قاضياً وقاضية، بنسبة ارتفاع غير مسبوقة بلغت أكثر من 1400% مقارنة بسنة 2021‏‎.
هذه الطفرة لا تعكس ارتفاعاً في المخالفات، بل تفسَّر بجاهزية الأبحاث المؤجلة من السنوات السابقة، ‏وتوفير موارد بشرية إضافية للمفتشية العامة، فضلاً عن التفرغ الكبير الذي خصصته اللجنة لدراسة ‏التقارير‎.‎
القرارات المتخذة جاءت متنوعة‎:‎
• تعيين مقرر:‏‎ 168 ‎قاضياً
• الحفظ:‏‎ 998 ‎قاضياً
• الحفظ مع لفت الانتباه:‏‎ 46 ‎قاضياً
• الحفظ مع لفت الانتباه والتكوين:‏‎ 91 ‎قاضياً
• تقدير الثروة:‏‎ 12 ‎حالة بالموافقة وحالة واحدة بالرفض
ت‌-‏ تقارير المقررين وإحالات جديدة
بعد تعيين المقررين لإجراء أبحاث معمقة، رفعت تقارير جديدة سنة 2024 شملت 91 قاضياً، ‏انتهت إلى إحالة 70 منهم على المجلس التأديبي، مقابل حفظ 21 ملفاً. بالمقارنة مع السنوات السابقة، ‏وهو ما يبرز منحى تصاعدي واضح حيث ارتفع عدد حالات الإحالة من 35 قاضياً سنة 2021 إلى 70 ‏قاضيا سنة 2024، أي تضاعف خلال أربع سنوات‎.‎
ث‌-‏ مقررات المجلس: عقوبات متفاوتة
خلال نفس السنة، بتّ المجلس في 44 ملفاً تأديبياً شمل 65 قاضياً. وأسفرت هذه المتابعات عن ‏عقوبات تأديبية صارمة، أبرزها‎:‎
• العزل:‏‎ 3 ‎حالات
• التقاعد الحتمي‎: ‎حالة واحدة
• الإقصاء المؤقت عن العمل مع الحرمان من الأجر:‏‎ 9 ‎حالات
• الإنذار والتوبيخ: ‏‎ 20 ‎حالة (10‏‎ ‎لعقوبة الإنذار و 10 لعقوبة التوبيخ)‏
• البراءة‎: ‎حالتان
ورغم ارتفاع عدد الإحالات، لوحظ انخفاض في عدد القضاة الذين تمت مؤاخذتهم فعلياً سنة ‏‏2024 (35 قاضياً) مقارنة بسنة 2023 (52 قاضياً)، أي بانخفاض يقارب 33‏‎%.‎
ج‌-‏ طبيعة الإخلالات والعقوبات
• الإخلالات‎:‎
‏-‏ واجبات مهنية: 68.5‏‎%‎
‏-‏ واجبات أخلاقية: 25.7‏‎%‎
‏-‏ إخلال بالشرف أو الثروة غير المبررة: 5.7‏‎%‎
• العقوبات‎:‎
‏-‏ الإنذار والتوبيخ شكلا حوالي 57% من مجموع العقوبات‏‎.‎
‏-‏ العزل والتقاعد الحتمي والإقصاء المؤقت مثلت 37‏‎%.‎
ح‌-‏ توزيع القضاة حسب الفئات
أبرز توزيع القضاة الذين صدرت في حقهم مقررات تأديبية خلال سنة 2024 أن الغالبية يزاولون ‏مهامهم في قضاء الحكم 23 قاضياً، مقابل 12 قاضياً في النيابة العامة‎. ‎أما من حيث النوع، فقد بلغ ‏عدد الذكور 33 قاضياً مقابل حالتين فقط من الإناث. وبالنسبة إلى الفئات العمرية، سجلت الفئة ما ‏بين ‏‎50 ‎و59 سنة العدد الأكبر بـ 15 قاضياً، تليها الفئة ما بين ‏‎60 ‎و75 سنة بـ 9 قضاة.‏
بهذا، تؤكد المقاربة التأديبية للمجلس الأعلى للسلطة القضائية أن تخليق العدالة لا يقتصر على ‏التوجيه والتحسيس، بل يقوم أيضاً على إجراءات صارمة ومؤسسات فعالة لمواجهة أي تجاوزات، مع ‏ضمان الشفافية في نشر المعطيات وتعزيز ثقة الرأي العام في استقلالية القضاء ونزاهته‎.‎
 حصيلة عمل المفتشية العامة للشؤون القضائية خلال سنة ‏‏2024‏
استمراراً لانخراطها الفاعل في تنفيذ التوجهات العامة للمخطط الاستراتيجي للمجلس الأعلى ‏للسلطة القضائية (2021-2026)، ووعياً منها بأهمية الرهانات الكبرى المطروحة على السلطة القضائية ‏في بلادنا، واصلت المفتشية العامة للشؤون القضائية خلال سنة 2024 ممارسة كافة المهام المنوطة بها ‏بموجب القانون رقم 38.21، وفق منهجية شمولية ومتوازنة. ويأتي ذلك في إطار تعزيز دورها الحيوي ‏كجهة مساعدة للمجلس الأعلى في مباشرة صلاحياته الدستورية، وتعزيز منظومة الشفافية والنزاهة، ‏والإرتقاء بالمرفق القضائي من خلال الرقابة والمتابعة والتقييم والتحري، مع تقديم التوصيات ‏والاقتراحات الهادفة إلى رفع مستوى النجاعة القضائية‎.‎
وفي هذا السياق، أولت المفتشية أهمية بالغة لرصد مؤشرات الأداء القضائي للمحاكم، ومتابعتها ‏وتقييمها استناداً إلى معايير قياس الفعالية والجودة، مع الوقوف على مدى تنفيذ برامج العمل المتعلقة ‏بالنهوض بأعباء الإدارة القضائية. ولتحقيق هذه الغايات، أعدت المفتشية برنامجاً للتفتيش المركزي ‏شمل زيارات لمجموعة من المحاكم ذات الولاية العامة، تم اختيارها وفق معايير دقيقة، مع إعطاء ‏الأولوية للمحاكم العادية التي تم رصد إخلالات أو تعثرات في سيرها، سواء من خلال تقارير التفتيش ‏اللامركزي أو شكايات المواطنين، إضافة إلى محاكم لم تخضع للتفتيش منذ مدة طويلة نتيجة تأخر ‏صدور القانون المنظم للمفتشية‎.‎
وقد شكل التفتيش القضائي المركزي، المنصوص عليه في المادة 10 من القانون رقم 38.21، ‏الركيزة الأساسية لنشاط المفتشية خلال سنة 2024. فقد تم زيارة 22 محكمة، منها 17 محكمة ابتدائية ‏و5 محاكم استئنافية، حيث أتاحت هذه الزيارات تقييم الأداء القضائي، ورصد المعوقات الإدارية ‏واللوجستية، واقتراح الحلول الكفيلة بتقويم الاختلالات‎.‎
وقد أعد المفتش العام قبل نهاية سنة 2023 برنامج التفتيش المركزي للسنة 2024 بالتنسيق مع ‏الرئيس المنتدب للمجلس ورئيس النيابة العامة، شمل محاكم موزعة على مختلف الجهات، منها على ‏سبيل المثال محكمة الاستئناف بآسفي، والقنيطرة، والرشيدية، وتازة، وبني ملال، والحسيمة، ‏ومكناس، والصويرة، واليوسفية. كما شمل البرنامج تفتيشاً خاصاً لمحكمة القنيطرة للاطلاع على ‏وضعية البيوع العقارية‎.‎
وشكلت هذه الزيارات نسبة 17.6% من مجموع المحاكم بالمملكة، مع مراعاة توزيع دقيق بين ‏محاكم الاستئناف والابتدائية والتجارية والإدارية، وبتغطية تراكمية للسنوات 2022 و2023 و2024 ‏بلغت 68 محكمة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.