التأني الاستراتيجي.. والدبلوماسية الشاملة

0

د. خالد فتحي: لم يفاجئنا السيد ناصر بوريطة وهو يرد الفضل فيما تحقق من إنجاز بمجلس الأمن لصاحب الجلالة، فمسار القضية برمته يشهد ويقر له بأنه عمل وجاهد  لأجل تحقيق هذا الإنجاز الكبير منذ تولي جلالته الحكم. غير أن ما بهرنا حقا هو ما أفصح عنه الوزير من تفاصيل دقيقة عن الحرص الملكي المتواصل على تتبع كل صغيرة وكبيرة، وعن هندسة كل مراحل النصر، منذ كانت فكرة الحكم الذاتي وليدة طرية ، إلى أن تجسدت إجماعا دوليا يوم الحادي والثلاثين من أكتوبر.
فصل الوزير في تفسير تصويت الأعضاء، وكان تفصيله ثريا ممتعا، إذ إننا جميعا نتوق دائما لمعرفة خيوط النجاح ومكامن أسراره، ويزداد شغفنا أكثر حين يكون النجاح وطنيا، متصلا بقضيتنا الأولى وفوق ذلك بجهود ملكنا الرائد. روى السيد الوزير قصة تألقنا الدبلوماسي، وكيف شيد لبنة لبنة، موضحا أن كل نجاح يحتاج إلى رؤية مؤطرة وإلى إيمان مسبق بضرورة وحتمية تحققه ، وهما السلاحان اللذان امتلكتهما ملكيتنا حين طرحت الحل المغربي الواقعي بديلا عن مخطط التسوية والاستفتاء المستحيل.
وهنا يسعفنا المتنبي في فهم أسرار هذه البطولة الدبلوماسية الملحمية، فهي بطولة لا تصنع إلا بالإرادة والتصميم.
قال شاعر العزم:
«على قدر أهل العزم تأتي العزائم»،
وأنشد أيضا: الرأي قبل شجاعة الشجعان، هو الأول وهي المحل الثاني.
في سنة 1999 كنا، دبلوماسيًا، في وضع لا نُحسد عليه، غير أن عزيمة الملك ورؤيته الثاقبة حملا القضية إلى منحى جديد هو الحكم الذاتي. وهكذا تبدأ دوما الأفكار الكبرى في عقول مبصرة تتجاوز حدود الزمن الراهن، وتتطلع إلى المآلات البعيدة.
وانطلاقا من هذه الرؤية الملكية الكاشفة، قرر المغرب  أن يحول بوصلته: فبدل أن يشتغل على الأمم المتحدة ككيان، وجه جهوده نحو الأعضاء المكوّنين لها، أي نحو الدول نفسها. وقد أدرك الملك أن قضيتنا، وإن ربحناها على المستويات السيادية والعسكرية والاقتصادية والإنسانية، فلن تُحسم نهائيًا إلا دبلوماسيًا، عبر تحقيق إجماع دولي حول الحق المغربي.
من هنا ركزت عقيدة الدبلوماسية المغربية على تعدد الشركاء وتنويع الشراكات، فعمل المغرب إفريقيا على القطع مع سياسة الكرسي الفارغ، والعودة إلى الاتحاد الإفريقي، وهو ما تطلب من جلالته جهدا شخصيا ورحلات مكوكية إلى عدد من الدول الإفريقية. خاطب الملك إفريقيا بلغة التعاون جنوب–جنوب، وبمنطق المكسب المشترك لا الهيمنة أو المساعدات المشروطة. فاستعاد المغرب وهجه الإفريقي بسرعة قياسية، لأن القارة رأت فيه شريكا موثوقا لا منافسا ولا وصيا.
وكان الاختراق الأكبر سنة 2020، حين اعترفت الولايات المتحدة بالسيادة المغربية على الصحراء. لم يثنِ الملك عن تحقيق هذا الإنجاز الواعد  أن الولاية الأولى لترامب كانت  آنذاك تلفظ أنفاسها الأخيرة، وحين راهن الخصوم على فترة بايدن أملا في نقض الاعتراف، فوجئوا بأن علاقة المغرب بالولايات المتحدة تتجاوز الانقسام الديمقراطي–الجمهوري.
سيعود ترامب إلى البيت الأبيض، وسيجد أن المغرب لم يعد يراوح مكانه الأول؛ فقد أقنع إسبانيا الدولة المستعمرة، ثم ألمانيا ففرنسا وبعدهما بريطانيا، بوجاهة طرحه. ووجد أن مشاريع خصوم وحدتنا الترابية قد تحولت إلى أضغاث أحلام، بعد أن أرهقتهم بهلوانياتهم وكشفت مغالطاتهم أمام العالم.
لقد كان تطرفهم في مخاصمة المغرب، في مقابل إصرار المغرب على مدّ اليد لهم، كفيلاً بأن يجعل كفة المقارنة تميل دومًا لصالح المملكة الشريفة. وعندما أطل ترامب مجددا على المشهد الدولي، وجد المغرب وقد اكتسح مساحات جديدة وراكم رصيدًا متزايدا من المصداقية الدولية. لذلك كان طبيعيا ان تصب  مبادرة امريكا صاحبة القلم لصالح الحل الواقعي الذي يقترحه المغرب .  
المغرب الذي انتصر على جائحة كورونا، والذي أدهش العالم في ملاعب قطر والشيلي، والذي يعمل على مشروع أنبوب النفط النيجيري–الأوروبي، ويفتح منفذًا للأطلسي أمام دول الساحل، هذا المغرب لا يمكن إلا أن تهوي إليه أفئدة الكبار، وتتقاطر نحوه أصوات الدعم والاحترام.
لقد تبيّن اليوم أن الصورة الشاملة للبلاد في منظور محمد السادس هي التي تصنع موقعها في الساحة الدولية وتمنحها مكانتها المستحقة. فالمصداقية لا تُبنى بالفظاظة ولا بالمروق ولا بالتمنيات، وإنما بالنجاح الواقعي، وهي السكة التي جاهد الملك في ترسيخها.
لقد حدد جلالته نقطة الوصول منذ أعلن مشروع الحكم الذاتي؛ فبالنسبة إليه،ومنذ طرحه سنة 2007 ،مسألة الاعتراف الدولي  هي مسألة وقت لا غير. فإذا كانت الأمم المتحدة ستتلكأ في البداية ، فإنها غدًا ستنضم إلى القافلة. لقد كان جلالته يطبق عن قناعة ويقين ، في سبيل هذا الهدف،  هذا المفهوم الذي صاغ له السيد ناصر بوريطة اسمًا بليغًا: التأني الاستراتيجي، أي الإيمان بعدالة القضية، والعمل لها بتأنٍ وصبر، في انتظار نضج الظروف الدولية ليُجنى الثمر في أوانه.
هكذا عمل جلالته على أن تُدرك الأمم المتحدة الواقع، وحين نضجت الظروف، بدأت قراراتها تُطابق هذا الواقع نفسه. إن قرار مجلس الأمن الأخير هو، بهذا المعنى، انتصار للواقعية على الأوهام، وللشرعية على التضليل، ولمصلحة الشعوب على الأجندات المغرضة.
ولتمرير قرار بكل هذا الثقل التاريخي كان لابد أن يُحجم الأعضاء الدائمون عن استعمال حق الفيتو، وأن تتوافر أغلبية مؤيدة. وكانت العقدة لدى روسيا والصين اللتان كانت  الجزائر لا تزال تتوسل إليهما بما تبقى لديها  من ذكريات الحرب الباردة، غافلة عن أن مياهًا كثيرة جرت تحت الجسر.
أما المغرب، فقد أعد  العدة باكرا. فحين زار جلالة الملك روسيا والصين سنتي 2016 و2017، كانت عينه منذ تلك اللحظة على ساعة التصويت هاته بالذات . وذلك هو عين الاستباق الاستراتيجي الذي لا يتأتى إلا لمن يمتلكون حسّ التأني وبُعد النظر.
لقد امتنعت روسيا عن التصويت، لكنها في الجوهر صوّتت للعلاقة  بالإيجاب للشراكة الاستراتيجية التي تربطها بالمغرب، وللمكانة الصلبة التي يحتلها إقليميًا وإفريقيًا وأطلسيًا. أما الصين، التي تكره كل مشروع انفصالي، فقد مالت بطبعها إلى منطق الوحدة، وهو ما لم تدركه الجزائر التي تناست حتى أن الرئيس الصيني توقف مؤخرًا بالمغرب واستُقبل من طرف ولي العهد الأمير مولاي الحسن.
ومع كل هذه العوامل المواتية التي كانت تميل لصالح المغرب، لم يترك جلالته شيئًا للصدفة، فدخل شخصيًا على خط الأمتار الأخيرة ليتم النصر.
ولا شك أن عناية الله تعالى هي التي هيأت  لنا كل هذه الظروف، كما لا شك أن المغرب كان في الموعد، متوكلاً على الله لا متواكلاً.
إن هذا التأني الاستراتيجي، ونحن نتناوله من منظور التحليل البعدي، ليس كفاءة ملكية فحسب، بل هو أيضًا صبر المؤمن لدى الملك  بالقضية ويقينه الراسخ  بأن الوعد بالنصر لا  بد ان يُمنح في النهاية لمن هم على الحق.
تأملوا الأحداث : القرار يُصدر والجزائر عضو في مجلس الأمن، تناور وتكيد، لكنها لا تستطيع صدّه ولا منعه. يا لها من سوريالية! ويا له من مشهد! إنه سيف العدالة الإلهية وقد حول العضوية التي توهمت الجزائر أنها ورقة قوة إلى مرآة تعكس هشاشة خطابها، وإلى انكشاف مخططها واندحار أوهامها. لقد كانت جلسة مجلس الأمن محاكمة دولية للعبث، وإدانة لهدر الزمن والإمكانات في ملاحقة سراب ضل فيه النظام الجزائري عن مصالح شعبه ومصلحة المنطقة بأسرها.
كل هذه الملابسات لم تكن محض صدفة، وإنما كانت ثمرة التوكل الصادق على الله تعالى الذي هيأ لنا هذا النصر المؤزر.
إن التأني الاستراتيجي الذي طبقه جلالة الملك بحكمة واقتدار هو فلسفة في إدارة السياسة والدبلوماسية، تقوم على الإيمان والرؤية البعيدة، وعلى التدرج الهادئ في مراكمة المكتسبات، وتحويل الزمن إلى حليف، حتى تتغير موازين القوى لا بالمواجهة أو الصدام، بل ببناء المصداقية، وبالصبر والعمل الدؤوب، وترك الخصوم يستهلكون أوراقهم بينما تتحين أنت اللحظة التاريخية.
لقد أتقن جلالة الملك الواقعية السياسية، ومارس قيادة استراتيجية شاملة جمعت بين الأمن والاستقرار والتنمية والاقتصاد والدبلوماسية، فصمم كقائدٍ مهندس مسارات النجاح قبل وقوعها. وهذه المتواليات المتناغمة تتطلب مهارة وحنكة في ترتيبها وتنظيمها وإطلاقها في توقيتها الأمثل.
واليوم يمكننا القول بثقة إن جلالة الملك قد وصل بنا، بفضل هذا التأني الاستراتيجي الذي انتهجه، إلى تجاوز القلق الوجودي حول سيادتنا الترابية، وبلغ بنا ما يمكن أن نسميه الاطمئنان الاستراتيجي، الذي يبشر بانطلاقة نهضة شاملة تمتد على مدى المغرب الموحد من طنجة إلى الكويرة، بل نهضة يمكن أن تمتد من نواكشوط إلى طرابلس، إن خلصت النوايا واتحدت العزائم والقلوب لبناء المغرب الكبير.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.