د. خالد فتحي: هناك الاحتفال، وهناك المعنى الكامن في ثنايا الاحتفال، وإذ أعلن جلالة الملك 31 من أكتوبر عيدا وطنيا، فهو بالتأكيد يريد أن يرسخ معنى ما، وقيمة ما في نفوس المغاربة: أن يظل المغرب موحدا في كل الأزمان، حرا أبيا شامخا كشموخ النسر فوق القمة الشماء.
ولعلي غير مبالغ إذا قلت إن بوادر هذا العيد استشفت في الكلمات الأولى للخطاب الملكي التاريخي في تلك الليلة المشهودة التي أرخت لمولده، زد على ذلك أن المغاربة جميعهم خرجوا مهللين مبتهجين جذلانين، وهل يهلل المرء أو يبتهج، ولا يصبح الحدث الذي هلل له وابتهج به عيدا؟
اعتماد هذا العيد هو دون شك رغبة ملكية في تخليد هذا التحول التاريخي في مسار قضيتنا الأولى، وتأكيد على وحدة الدولة ومكونات الأمة من طنجة إلى الكويرة، بعد أن حسمت الآن في الوعي الدولي كما سبق أن حسمت في الوعي الوطني.
هذا العيد يمثل الوفاء والالتفاف حول الملكية المواطنة الضامنة لوحدة البلاد من خلال حدث معاصر في الذاكرة الجماعية، مما يدل على أن وحدتنا، فوق كونها معطى تاريخيا، هي قيمة حية ومتجددة بالإنجازات التي يحققها الملوك العلويون المنصهرون في الشعب. فإذا كان محمد الخامس قد قاد ثورة الملك والشعب، والحسن الثاني أبدع المسيرة الخضراء، فمحمد السادس قد رسخ دوليا وحدتنا.
ولكن هذا العيد لا يقف بنا عند هذه المعاني الظاهرة فقط، بل هو يمتد إلى إبراز بصيرة الملكية المغربية التي تستطيع أن تكيف سردية الأمة ومرجعيتها الرمزية بما يضمن دوما الزخم الضروري للملاحم الآنية التي تكون بصدد خوضها بمعية الشعب.
إذا كانت المسيرة الخضراء ترمز إلى استرجاع الأرض والإنسان بالتحرك الشعبي وبسط السيادة الوطنية، فإن عيد الوحدة يرمز من جهته إلى اكتمال الاعتراف الخارجي وإعلان الشرعية الدولية الكاملة للسيادة المغربية، وبالتالي يتحول مركز الثقل في السردية من السيادة الشعبية إلى الشرعية الأممية.
عيد الوحدة في،الحادي والثلاثون من أكتوبر دلالة على أن معركة التحرير قد تمت، وأننا الآن نخوض غمار استحقاق التثبيت القانوني والسياسي لحل الحكم الذاتي عبر القنوات الدولية.
المغرب يطمئن بهذا العيد المجتمع الدولي بأنه مستجيب لقرار مجلس الأمن، بدليل أنه يربط رمزيته الوطنية بقرارات الأمم المتحدة، وليس بتاريخ وطني فقط يعني المغاربة وحدهم.
لكأنما يكون هذا العيد تكملة للخطاب التاريخي الذي وجهه الملك بعد إعلان القرار الأممي او حتى شروعا في التفاوض يدشنه المغرب بحسن نية تجاه بقية الاطراف .
إن جلالة الملك لينقلنا من خلال عيد الوحدة هذا من الخطاب التعبوي التحميسي الذي شكلته المسيرة الخضراء إلى الخطاب المؤسساتي الوحدوي العقلاني الذي يشكله اعتماد الحل السياسي؛ أي إننا ننتقل من الرمزية النضالية التي تمثلها المسيرة الخضراء إلى الرمزية التوافقية التي يمثلها عيد الوحدة. او لنقل بالأحرى اننا نضم الرمزيتين لبعضهما البعض . عيد الوحدة إعلان ملكي بإنهاء مرحلة الصراع وإعادة ترتيب ودمج ذكي للرموز السياسية والوطنية بإلغاء خطاب المسيرة الخضراء، وإضافة عيد الوحدة. إلغاء الخطاب يعني تقليص الشحنة العاطفية الشعبية، وتعويضها بمناسبة تكون أكثر هدوءًا وذات بعد مؤسساتي يضمن الآن الانتقال من فعل التحرير إلى فعل البناء والاستقرار.
لم يعوض عيد الوحدة عيد المسيرة إذن، وإنما عوض الخطاب الملكي بمناسبة المسيرة. وهذه رسالة واضحة للمغاربة في مخيمات تندوف أن عودتهم إلى وطنهم الأم ليست هزيمة، بل الخيار التاريخي الأصوب الذي عليهم اتخاذه. إنه انتصار وانحياز منهم لهذه القيمة العظيمة التي هي قيمة الوحدة.
قال محدثي إنه كان ينتظر أن يطلق الملك على هذا اليوم اسم “عيد النصر”. أجبت: الملك لم يخاطب المغاربة بنبرة المنتصر او بلغة الغلبة، وإنما دعا إلى ألا يكون هناك غالب ولا مغلوب، وتحدث عوضا عن ذلك عن المغرب الموحد من طنجة إلى الكويرة. وبالتالي، “عيد الوحدة” هي التسمية التي تليق عنوانا وتوصيفا لهذه المرحلة.
ولكنه عيد مستمر.هذا العيد سن ليخلد، فالوحدة الوطنية لن تكون يوما ما أمرا قابلا للتنازل أو متفاوضا بشأنه، بل إن عيد الوحدة عيد مفتوح في الزمان والمكان؛ اليوم وحدة مغربية، وغدا وحدة مغاربية، إذ القرار الأممي لا يرسخ المغرب الموحد فحسب، بل يفتح الطريق لبناء المغرب الكبير الذي يخلو من أية حدود جغرافية قد تفصل بين المرء وأخيه.
ولِمَ لا ،قد يرتقي هذا العيد ليكون ذا أفق إفريقي من خلال التعاون جنوب جنوب ،والدفاع الموحد للحكومات الافريقية عن المصالح الحيوية لقارتنا ؟
وأخيرا فإن الاحتفاء بالأعياد الوطنية لا يكون لأجل المباهاة والتفاخر، بل هو لحظة وعي جماعي نراجع فيها ذاكرتنا ونحينها لنستشرف بها مستقبلنا. و لذلك فآن عيد الوحدة،بالمعنى الذي يريده الملك محمد السادس، لن يكون مناسبة ظرفية، بل عهدا متجددا بين الأجيال على حفظ الهوية وصيانة هذا الوطن الذي اجتمعنا على حبه والدفاع عنه، مغربا موحدا في الأرض والروح والمصير.
ان الوحدة لتتجسد كذلك في قيم التضامن والتآزر والعدالة الاجتماعية التي ينبغي أن تسود بين المغاربة. فكلما ترسخت هذه القيم، كلما تعززت حصانة الوطن ووحدته، وسلمت من كل محاولات الإضعاف والتجزئة. بهذا المعنى الثاني، يكون عيد الوحدة دعوةملكية متجددة لترسيخ ثقافة المواطنة و استمرار الالتحام بين الدولة والمجتمع.