في ندوة علمية بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية السويسي بالرباط، خصصت لمناقشة “تحولات الحقل الحزبي المغربي”، بمشاركة فاعلين سياسيين وأكاديميين قدموا قراءات متعددة حول أعطاب العمل الحزبي وسبل تجديده بما ينسجم مع متطلبات المرحلة المقبلة.
وقد أجمع المتدخلون على أن تخليق الحياة السياسية وتجديد النخب باتا شرطين أساسيين لضمان فاعلية الوساطة الحزبية، في ظل تراجع ثقة المواطنين واتساع العزوف الانتخابي، مطالبين بفتح نقاشات داخلية حقيقية، لتمكين المواطنين من المشاركة في بناء تصوراتها ومواقفها، بما يعزز شفافيتها ويجعلها أكثر قرباً من انتظارات المجتمع، إضافة الى اعتماد معايير دقيقة للكفاءة والاستحقاق في اختيار النخب، لكون نجاح الوساطة السياسية يرتبط، بامتلاكه رؤية واضحة تجاه القضايا الحيوية، وإطلاق نقاش وطني حول تعاقد سياسي جديد بين الدولة والأحزاب، يرتكز على استقلالية القرار الحزبي وتوفير الإمكانات اللازمة لممارسة الأدوار الدستورية.
وخلصت الندوة، إلى أن الأزمة الحزبية ذات طابع بنيوي، وأن تجاوزها يقتضي مراجعة شاملة لطرق اشتغال التنظيمات السياسية، بدءاً من تخليق الحياة الداخلية، مروراً بتجديد النخب، بمقاربة جديدة تجعل الحزب مؤسسة حيوية داخل المجتمع، قادرة على إنتاج الأفكار وصياغة البدائل، بدل الاقتصار على أداء انتخابي ظرفي.
لكن، حسب قراءة فيما يجري الان، وما يفصل بموعد انتخابات 2026!، فقد تحركت “ماكينة الاستقطاب” قبل الأوان، وخاصة الأحزاب المشكلة للحكومة الحالية من اجل البقاء في اماكنها ، مع صراع “التناوب” على رئاسة الحكومة المقبلة، بين جمال”الحمامة” وقوة “التراكتور” و سياسة “الميزان”، متجاهلين الباقي قبل الأوان..!.
فانطلقت عملية الاشتغال بطريقة “8 شتنبر 2021” ، التي تمكنوا من خلالها “اركاب” الحمامة على ظهر”الجرار” ومراقبتهما بعين “الميزان” ! ، لكي لا تسقط “الحمامة” امام “التراكتور” خوفا من هدسها، قبل ان يكتملوا الطريق الى ما وصلوا اليه بعد اربع سنوات مضت، وما عايشها الشعب المغربي جراء سياسة هذه الحكومة، والأتي لا يعلمه الا الله!.
وفي هذا الاطار، انطلقت “الحمامة” للتحليق في السماء فوق رؤوس “المستضغفين” لترى ما في الارض عن بعد، لتنزل في اماكن مدروسة من طرف مكاتب الدراسات الأجنبية المختصة في التواصل وطريقة الاستقطاب، كما حصل في انتخابات 2021، لتجديد العرض لحصيلة الحزب امام الجمهور “المستقطب!”، وبمؤشرات تدفع نحو قراءة أخرى بثوب “منجز حزبي”!، في وقت لمس فيه المواطن الفرق بين الشعارات واقعه اليومي الذي يكتوى بنار غلاء المعيشة بكل تجلياتها ، إضافة الى الاختلالات المتعددة في الصحة والتعليم والشغل .. الخ، تزداد الفجوة وضوحا حين تطرح على الطاولة قضايا تضارب المصالح التي تلاحق رئيس الحكومة عزيز أخنوش وطاقم من وزرائه، لاسيما في النسخة الثانية من الحكومة، بعدما تفجرت ملفات صفقات الأدوية، والعلاقات بين الفاعل السياسي والاقتصادي.
فبدل أن يقدم الحزب جواباً مقنعاً حول كيفية الفصل بين السلطة والثروة، وجد نفسه في موقع دفاع متواصل، مما يجعل من أي “تحليقة” تواصلية كيفما تمت هندستها التقنية، معرضة للانكسار أمام سؤال بسيط يطرحه المواطن: “من يستفيد فعلاً من السلطة؟ وهل تدار البلاد بمنطق المصلحة العامة أم بمنطق شبكات المصالح؟”.
واللافت، أن هذه الجولة الحزبية لا تشتغل فقط بمنطق التعبئة الداخلية، بل تعتمد – وفق ما يُتداول سياسياً – على خدمات تلك المكاتب المتخصصة في “الهندسة الانتخابية”، لتُسهم في انتقاء الجمهور، وصياغة الرسائل، وضبط الصور والخطابات والإيقاع العام للحملة، بما يخدم هدفاً مركزياً الا وهو إعادة تأهيل صورة الحزب استعدادا لانتخابات 2026. هذا الاعتماد على تقنيات التسويق السياسي، يطرح سؤالاً عميقاً حول طبيعة العلاقة بين الحزب والمجتمع: “هل نحن أمام تنظيم سياسي متجذر وسط فئاته، أم أمام ـ منتج انتخابي ـ يُعاد تغليفه دورياً وفق إملاءات مكاتب متخصصة؟
في المقابل، لا يقف حلفاء التجمع الوطني للأحرار في الحكومة موقف المتفرج!، فحزب “الجرار”، الذي يحتل المرتبة الثانية في الخريطة السياسية الحالية، يجد في اهتزاز صورة حزب “الحمامة” امام الشعب المغربي، فرصة ثمينة لإعادة تموقعه، بدءا بما صرحت به الأمينة العامة للحزب، بصفتها منسقة للأمانة العامة الثلاثية في احدى اللقاءات ، قائلة: “غادي نريشو الحمامة” في الانتخابات المقبلة، وهذا التعبير يحمل في طياته قدراً كبيراً من التحدي السياسي، ويكشف حجم التوتر الكامن داخل الأغلبية، وهذه الرسالة العلنية ليست مجرد مزحة سياسية عابرة، بل تعبير عن استراتيجية متكاملة تقوم على استثمار أخطاء الشريك الحكومي لتحويلها إلى رصيد انتخابي مستقبلي!.
غير أن حزب “الجرار ” نفسه لا يدخل إلى ساحة 2026 من موقع أخلاقي مريح، لانه يجر وراءه تداعيات ملف “إسكوبار الصحراء” بعدما تورط أحد قيادييه الذين هم في السجن حاليا، الامر الذي سيثقل كاهل الحزب برصيد من الشبهات، واخرى لا تقل خطورة عما يُنسب لحزب “الحمامة”، ومع ذلك، يراهن الحزب، وفق ما يتردد في كواليسه، على استراتيجية مرسومة بعناية من طرف “أحد مؤسسيه”، للظفر برئاسة الحكومة كهدف استراتيجي كان مرسوما منذ البداية، لكن سائق “الجرار” لا يتوفر على رخصة السياقة للولوج الى العاصمة فوق “تريبورتور” الدي استبدل بالجرار!.
وثالث “الاثافي” في التحالف الحكومي ، حزب “الميزان” ، فانه اختار نهج سياسة اخرى من خلال النقد المتزايد لعدة ملفات “مشبوهة” يديرها رئيس الحكومة احنوش ، في لقاءاته التواصلية وخطاباته “الجارحة”!، حيث وصف ما تقوم به الحكومة في مجال الدعم والمحروقات، بـ”الجشع” والربح الا اخلاقي، إضافة الى تضارب المصالح، وفتح المجال أمام “الفراقشية” للاغتناء على حساب المواطنين.
وهذه اللهجة تتقاطع مع جزء من المزاج الشعبي الناقم على غلاء الأسعار واحتكار بعض القطاعات ، وسياسة عزيز اغنزش،الى غير ذلك من الفرص التي تستهدف إضعاف موقع الحزب المتصدر للحكومة، وتقديم حزب الاستقلال كبديل “معقول” لقياداها في الانتخابات المقبلة، مستنداً إلى رصيده التاريخي وصورته كحزب وطني محافظ على الهوية الاجتماعية للمغاربة، و”نظافة اليد شيئا ما” عن الباقي!.
وما يكشفه هذا التوتر بين مكونات الأغلبية، أعمق من مجرد تنافس انتخابي عابر، بل إنها أزمة حرب خفي “داخل المثلث”، حيث ان هذه الأحزاب التي شكّلت تحالفاً حكومياً على أساس برنامج مشترك، تحولت اليوم إلى “الضرب تحت الحزام” المتبادل في الحملات الانتخابية قبل حوالي سنة و”الغير أخلاقية” من خلال تتبادل “قادتها” الاتهامات فيما بينهم على من يحمّل الآخر مسؤولية الإخفاقات في ظل هذا المناخ، الذي يغيب فيه النقاش الجدي حول السياسات العمومية البديلة، لتحل محله لغة اللوم، وتوزيع المسؤوليات، والبحث عن كبش فداء أمام الرأي العام، الذي اضحى الان وبعد اربع سنوات من المعاناة يطالب فقط . بربط المسؤولية بالمحاسبة.
حيث من المفترض أن الأحزاب المشاركة في الحكومة تتحمل، جماعيا، النتائج السياسية والاقتصادية والاجتماعية لولايتها، غير أن ما يحدث عملياً هو محاولة كل طرف بناء خطاب مزدوج للدفاع عن مشاركته في “المنجزات الإيجابية”، وفي الوقت ذاته إلقاء تبعات الاختلالات على الشركاء أو على “الظرفية الدولية” أو على “الإرث الحكومي السابق”، وهذا الهروب من المحاسبة الجماعية يجعل المواطن في حيرة!: من يحاسب من؟ ومن المسؤول عن ماذا؟
وفي هذا السياق، يطرح السؤال الجوهري نفسه: “كيف سيتعامل الناخب المغربي مع هذه المعطيات؟ ” وهل سيختار معاقبة الأحزاب التي يعتبر أنها انغمست في “المصالح الشخصية”، وأسرفت في التسويق بدل الإنجاز، أم أن منطق الإغراءات اللحظية – عبر وعود ظرفية وحملات قصيرة المدى لا تتجاوز أسبوعاً أو أسبوعين – لانتاج الخريطة نفسها؟ اذا ما نجح احد منهم في استمالة الكتلة الناخبة التي تتاثر بالخطاب اللحظي، في ظل ضعف التأطير السياسي وتراجع دور التنظيمات الحزبية، التي تسببت في العزوف، وعدم الثقة تتزايد، وخصوصا لدى الشباب، الامر الذي يفتح الباب على سيناريوهات معقدة على مستوى المشاركة ونوعية التصويت، في انتخابات 2026 لمنح الأغلبية لمن سيترأس الحكومة.
فرغم ما يقوم به حزب التجمع الوطني للأحرار من محاولة التجييش لا تنزع عنه قبعة “الفراقشية” في القطاعات التي يجبرها، وردود فعل حليفيه الأصالة والمعاصرة لتبييض ملفه “المتسخ” ببعض الشبهات! ، فان حزب الاستقلال هو الذي يعتبر من الأحزاب الأقل ضررا في “الانغماس المصلحي” بالنسبة لحلفائه في حكومة 8 شتنبر 2021 ، ولذلك فان كفة الصدارة ستؤول حكومة 2026، الى الرئيس الذي يرى ويسمع ولا يتكلم الا ناذرا وفي فرص لتسجيل “ضربات الجزاء” في غياب تكافؤ الفرض والمنافسة من طرف أحزاب المعارضة الحالية!، لكن قوة “القوي” ـ ربما ـ ستكون له حسابات أخرى لم تكن في الحسبان!.
حدث