الثبات والاعتدال والوضوح: الكلمات المفاتيح لدبلوماسية مغربية فاعلة | حدث كم

الثبات والاعتدال والوضوح: الكلمات المفاتيح لدبلوماسية مغربية فاعلة

15/07/2019

الحسين ميموني:  عبر تعلقها الشديد بالمبادئ التأسيسية التي تؤطر علاقتها بالعالم، نجحت الدبلوماسية المغربية في غضون عقدين من الزمن في إحداث تغيير عميق مرتكز حول الثبات في المواقف والاعتدال في المقاربة والوضوح في النهج.
ومع تبني إصلاحات خصبة على جرعات مخففة، جرى بهدوء إعادة بناء الأداء الدبلوماسي بمرتكزات تم تأسيسها بتؤدة حول الأولويات والمصالح الحيوية للمملكة ومكانتها بين باقي الأمم.
وبالمناسبة، فقد تم تضمين هذه المبادئ رسميا في ديباجة دستور عام 2011: “دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم وتنوع مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية – الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية”.
“ستظل الدبلوماسية المغربية وفية لثوابتها العريقة في التعامل مع العالم الخارجي، على أساس الثقة في الذات، واحترام الشرعية الدولية، والإلتزام بكل ما يعزز السلم والامن الدوليين، ومناصرة القضايا العادلة، وتقوية علاقات التعاون الدولي في كل مجالاته” حسب ما أوضح جلالة الملك محمد السادس في خطاب العرش لسنة 2012.
تلك هي المبادئ التوجيهية لاستراتيجية دبلوماسية تم وضعها لتواكب مستوى الإشعاع الدولي المملكة، من خلال موقعها الجيو-سياسي على ملتقى طرق بين إفريقيا والعالم العربي وأوروبا، وبتاريخها العريق باعتباره بوتقة ينصهر فيها التبادل والتواصل.
وانطلاقا من محيطه المباشر، المغرب الكبير، ظل المغرب وفيا، على الرغم من حالة الجمود، لرؤيته المتمثلة في اتحاد مغاربي قوي يستحق أن يمنح ديناميكية إيجابية لتنمية مستدامة ومندمجة.
وفي ذروة اضطرابات ما عرف ب”الربيع العربي”، رفض المغرب بشكل دبلوماسيا عرض مجلس التعاون الخليجي الانضمام إلى هذه المنظمة، على اعتبار هذا الانضمام غير متوافق مع مشروع اتحاد المغرب العربي، والذي رأى النور في مراكش عام 1989.
وإذا كانت الحدود مع الجار الشرقي لاتزال مغلقة، على الرغم من النداءات الملحة من المغرب لإعادة فتحها، فإن المملكة واصلت بلا كلل جهودها لجمع أطراف النزاع في ليبيا بالصخيرات، مع البقاء منفتحة على العالم العربي الإسلامي، كفضاء للانتماء المشترك ظلت تضطلع فيه بدور ريادي.
وبينما كانت بعض دول مجلس التعاون الخليجي على خلاف مع قطر، تحلى المغرب بالحكمة والروية، مفضلا سبيل الحوار والتشاور.
وكبلد يجظى بالاحترام ومواقفه بالتقدير في جميع أنحاء العالم، يرجح المغرب باستمرار كفة الحوار والتفاوض في الصراع العربي الإسرائيلي، وشجع المصالحة بين الفرقاء الفلسطينيين ودعا إلى الحفاظ على الوضع الخاص بالقدس الشريف.
كما أن المملكة، بوصفها بلدا مؤسسا لمنظمة المؤتمر الإسلامي سنة 1969، تقف خلف تأسيس لجنة القدس في عام 1975، وكذلك وكالة بيت المال القدس عام 1979. وإذا كنا لا نستطيع حصر كافة مساهمات هاتين المؤسستين في المدينة المقدسة، فمن المهم أن نتذكر، في أعقاب قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نقل سفارة بلاده، الموقف الحازم لجلالة الملك، رئيس لجنة القدس. فقد أوضح بلاغ للديوان الملكي (دجنبر 2017) أن جلالته عبر عن “رفضه القوي لكل عمل من شأنه المساس بالخصوصية الدينية المتعددة للمدينة المقدسة أو تغيير وضعها القانوني والسياسي”.
هذا الحضور للمملكة على الساحة الإقليمية تعزز بشكل طبيعي من خلال الانفتاح المتزايد على شركائه التقليديين، ويتعلق الأمر بإسبانيا وفرنسا، والاتحاد الأوروبي بطبيعة الحال.
وبصرف النظر عن الحادث المؤسف ل”جزيرة ليلى” في سنة 2003، فإن العلاقات بين الرباط ومدريد تعززت من ناحية التبادل وقوة المبادلات، لدرجة أن إسبانيا صارت الشريك التجاري الأول للمغرب.
وبينما واصلت العلاقات مع فرنسا اتجاهها التصاعدي على مستوى المبادلات، صار بالمغرب منذ سنة 2008 يحظى ب”الوضع المتقدم” مع الاتحاد الأوروبي، كمقدمة لتعميق العلاقات السياسية، والاندماج في السوق الداخلية من خلال تقارب تنظيمي وتعاون قطاعي وبعد إنساني

وعلى نفس المنوال، وقعت المملكة في سنة 2004 اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة، غداة الحصول على وضع الحليف المميز خارج حلف الناتو، وهو وضع يتيح للمغرب إمكانية أن يصبح منصة للاستثمارات الأمريكية باتجاه أوروبا والعالم العربي.
وانطلاقا من حرصه على تنويع شراكاته، عمد المغرب أيضا على الانفتاح على روسيا من خلال، على الخصوص، زيارة جلالة الملك إلى موسكو (مارس 2016)، على رأس وفد كبير. هذه الزيارة التي “تندرج في إطار تعزيز الشراكة الاستراتيجية التي تربط المملكة المغربية والاتحاد الروسي”، توجت بتوقيع العديد من اتفاقيات التعاون الثنائي.
ومن خلال هذا المنظور ذاته، يتعين إدراج الزيارة التي قام بها جلالته إلى بكين (ماي 2016)، والتي تميزت بتوقيع إعلان مشترك حول إقامة شراكة استراتيجية، وهو ما يؤشر لرغبة البلدين لإعطاء دفعة جديدة للعلاقات الثنائية.
وبطبيعة الحال، فإن هذه القدرة على استشراف المستقبل لم تكن ممكنة دون سند قوي: تجذر جغرافي وتاريخي وإنساني وثقافي للمغرب في القارة الإفريقية، باعتبارها قد ره ومستقره في هذا العالم.
“المغرب شجرة جذورها في إفريقيا ولكنها تتنفس من خلال أوراقها في أوروبا “كما قال جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه في عام 1986. فإذا لم يقطع المغرب قط علاقاته مع جذوره، بفضل الاتفاقيات الثنائية، على وجه الخصوص، فإن هذه المقولة ستتجسد بالكامل خلال العقدين الماضيين منذ اعتلاء جلالة الملك محمد السادس عرش أسلافه الميامين.
وكبلد في طليعة الداعمين لحركات التحرر الوطني في إفريقيا (المؤتمر الوطني الأفريقي، موزمبيق، الرأس الأخضر، أنغولا…) فإن المغرب، الوفي لجذوره الإفريقية، قرر في عام 2000 خلال أول قمة بين أفريقيا وأوروبا بالقاهرة إلغاء ديون البلدان الأقل نموا تجاه المغرب.
لقد كان هذا مؤشرا لديناميكية نبيلة ميزت عودة المغرب لحضنه القاري، مع استثمار اقتصادي بكل تأكيد، ولكن دبلوماسي بوجه خاص من حيث إيجاد حلول للصراعات، ومكافحة الإرهاب، والتكوين، وتنظيم أوضاع المهاجرين غير الشرعيين… والقائمة تطول.
وقد برهنت هذه المجالات، المرتكزة حول استراتيجية دبلوماسية تشجع التعاون جنوب-جنوب ومقاربة رابح-رابح، فعاليتها ونضجها على الصعيدين الثنائي والمتعدد الأطراف. والنتيجة: المغرب هو أول مستثمر إفريقي في غرب إفريقيا، وثاني أكبر مستثمر إفريقي في كل إفريقيا. وصادرات المغرب إلى القارة نمت بنسبة 13 في المئة كمتوسط سنوي لتصل إلى 2.1 مليار أورو.
مدعومة بالزيارات الملكية التي ترأس جلالته خلالها وفودا تجارية واقتصادية مهمة (أكثر من 46 زيارة إلى 25 دولة أفريقية وما يقرب من ألف اتفاق تم إبرامه)، فإنه ليس من المستغرب أن هذه الاستراتيجية تؤتي ثمارها. والمملكة، بنهج دبلوماسي هجومي -دون أن يكون عدوانيا- لم يقم سوى باستعادة مقعده (وبشكل ملكي!) في الاتحاد الإفريقي (يناير 2017).
وماذا عن البوليساريو وداعميهم؟ إن الدبلوماسية المغربية لا تعاني من أي تقلب. فهي وفية لمبادئها، فقفد كانت ولا تزال هي نفسها في كل مكان، بما في ذلك في أمريكا اللاتينية، التي كانت في وقت من الأوقات معقلا الانفصاليين، والآن صارت مسرحا لمشاهد متتالية لسحب الاعتراف بجمهورية “البوليساريو” الوهمية، خصوصا في أعقاب الجولة الملكية في 2004 لخمسة بلدان بالمنطقة (المكسيك والبرازيل وتشيلي وبيرو والأرجنتين).
ولتحقيق ذلك، يعتمد المغرب على عدالة قضيته ودينامية نسائه ورجاله، ووضوح نهجه في المنتديات الجهوية والدولية، كما هو الحال في منطقة آسيا-المحيط الهادئ، من خلال تشجيع مقاربة رابح-رابح.
وبعبارة أخرى، فإن المملكة، لكي تمنح لنفسها الوسائل لتحقيق طموحاتها، لديها شبكة معتبرة كما يشهد على ذلك عدد القنصليات والسفارات المفتوحة حول العالم، إلى جانب دينامية ناجحة على مستوى العلاقات الثنائية (تبادل الزيارات والمنح الدراسية والتدريب وتبادل الخبراء…) وحضور وازن في المنتديات والمنظمات الدولية.
وضمن هذه اللوحة الجميلة، من المهم أن نضيف أن المغرب كان، في عام 2011، قد أسس الأكاديمية المغربية للدراسات الدبلوماسية، وهي مديرية تابعة لوزارة الشؤون الخارجية والتعاون، يتوقع منها إبراز صورة المغرب بشكل أكبر.

التعليقات مغلقة.