من الجهاز الذي زرعته في الجولان إلى “لوجيسيال بيكاسوس” :ماذا حققت إسرائيلين من مكاسب في تقدمها التكنولوجي وفي مجال التجسس؟ – حدث كم

من الجهاز الذي زرعته في الجولان إلى “لوجيسيال بيكاسوس” :ماذا حققت إسرائيلين من مكاسب في تقدمها التكنولوجي وفي مجال التجسس؟

عبد السلام البوسرغيني : في سنة 1965 تم الحديث لأول مرة عن استعمال إسرائيل لأجهزة المواصلات التليفونية كوسيلة للتجسس ،  وكان الحديث عن ذلك عرضا بمناسبة الكشف عن استعمال  لوجيسيال بيغاسوس ، وذكرني ذلك بقضية الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين وشط بي الحديث بعيدا ، ودفعني إلى تقديم بعض ما اختزنته الذاكرة عن هذه القضية ، نظرا لأهميتها التاريخية في الصراع العربي الإسرائيلي.

وبعد ، لم يكن استعمال التصنت على المكالمات التليفونية في عمليات التجسس شيئا غريبا بالنسبة لأجهزة المخابرات في مختلف الدول ، بل إنه كان وما يزال من أهم السبل التي تستعمل ضد الخصوم والأعداء لمعرفة ما يفكرون فيه وما يخططون له وما يهيؤونه لأية مواجهة محتملة سواء على الصعيد السياسي أوالدبلوماسي أو لأي نزاع مسلح.

ولعل إسرائيل وصلت في هذا الميدان ، وعلى غرارما حققته في ميادين علمية أخرى ، إلى القمة في تطويع التقنيات التكنولوجية وابتكار الأجهزة والبرمجيات ( اللوجيسيال ) المرصودة للتجسس .

 وبالطبع فقد مرت بمراحل كان أولها يرجع الى العقد السادس من القرن الماضي على ما يظهر ، وأريد هنا أن أرجع إلى ما أتذكره عن أحداث كان لها ارتباط بأول إشارة إلى استعمال إسرائيل التصنت على المواصلات التليفونية للتجسس على العرب وما جنته من ذلك في حرب حزيران 1967 .

خلال النصف الأول من الستينات كانت إسرائيل قد كلفت أحد عملائها في سوريا بمحاولة الاتصال بضابط إسرائيلي أعتقل في التراب السوري لينقل إليه رسالة تستهدف رفع معنوياته وحثه على عدم الإفصاح عن الهدف من تسربه الى منطقة الجولان ، مكلفا بإصلاح جهاز تمكنت المخابرات الإسرائيلية من بثه في الأرض السورية وإيصاله بموقع للمواصلات التليفونية ، وظل يعمل لمدة طويلة وبواسطته تمكنت المخابرات الإسرائيلية من جمع معلومات ، إضافة الى ما تمكن من القيام به عملاء آخرون ، وهي معلومات لعبت ولا شك دورا مهما في انتصار إسرائيل الساحق على العرب في حرب حزيران 1967 .

ولقد كان من بين أهم أولئك العملاء ذلك العميل الذي أشرنا إلى تكليفه بتبليغ رسالة إلى الضابط المعتقل في سوريا ، فمن هو ذلك العميل الإسرائيلي المهم المشار إليه ؟ للجواب على هذا السؤال إرجع إلى ما أختزنته الذاكرة عن أحداث الستينات المثيرة التي غيرت مجرى التاريخ وتركت ندوبا عميقة في جسم الأمة العربية ومضاعفات لا يمكن تقدير خطورتها ٠ لكن لنتساءل قبل كل شيء كيف تم اكتشافه ؟.

تعودت السلطات السورية كغيرها من السلطات في مختلف الدول أن تقيم ( يوم صمت ) تتوقف فيه كل البعثات الدبلوماسية ومن لديه رخصة استعمال المواصلات اللاسلكية عن أي إرسال .

وفي إحدي الحالات رصدت السلطات السورية عملية إرسال مجهولة ، لم تكن سوريا تتوفر على جهاز لتحديد مكان الإرسال اللاسلكي ، وبتوصلها بذلك الجهار من الحليف السوفياتي أقامت  من جديد (يوم صمت ) ، لكن العميل الإسرائيلي لم يكن على علم فأعاد الاتصال بالمخابرات الإسرائيلية واستمر في البث ألى توقفت السلطات أمام بيته واعتقلته متلبسا بجريمة التجسس .

 وهكذا وجدت السلطات السورية نفسها امام خبيراسرائيلي لا أمام ذلك الرجل الذي استطاع أن يضمن لنفسه مكانة في المجمع السوري بانتحاله إسم كامل أمين ثابت وأن يرتقي ضمن المسؤولين السورين الى الحد الذي أصبح يشغل منصب مستشار وزيرالدفاع مصطفى طلاس .

 ولقد ظل يعيش في سوريا منذ أن دخل إليها سنة 1962 ، ولا يثير أية شكوك ويتنقل في ربوعها ويسافر أحيانا إلى إسرائيل ليدخل إليها قادما من قبرص باسمه الحقيقي إلياهو بن شاؤون كوهين ليزورأسرته ، فمن هو هذا الخبير الخطير الذي لعب أدوارا هامة في التجسس ، لا فقط في سوريا ، بل وفي العالم العربي بحكم المكانة التي و صل أليها ضمن قادة حزب البعث وضمن المسؤولين السوريين ؟ وكيف تمكنت المخابرات الإسرائيلية من التوصل ألى الإيقاع بسوريا التي ظل يعمل فيها بوجهين وجه المواطن السوري المناضل في حزب البعث ، ووجه العميل الخطير الذي استطاع أن يخفيه لمدة ثلاث سنوات ؟ .

ظل إيلي بن شاؤون كوهين مواطنا مصريا إلى أن هاجر إلى إسرائيل سنة 1957 وهو في العاشرة من عمره ، والتحق بالعمل في وزارة الدفاع الإسرائيلية ، وفيها اكتشفه مدير الموساد وتوسم فيه من المؤهلات الكفيلة بأن يكون عميلا للمخابرات ، فتم إخضاعه للمراقبة اللصيقة لمدة ستة أشهر، قبل أن يتم توجيهه ليلتحق بمعهد تكوينه عميلا للمخابرات ، وفي سوريا بالضبط ، وقد كان عليه أن يتقن اللهجة السورية وأن يحسن من معرفته باللغة العربية وأن يعرف سوريا بل وأن يعرف دمشق ، شوارعها وأزقتها ، وأن يلم بأسماء الأسر والعائلات السورية .

وكمرحلة أولى تمهيدا للألتحاق بدمشق لممارسة مهامه الإستخاراتية ، هاجر إلى الأرجنتين وعاش مدة في عاصمتها بوينوس إيريس حيث تمكن من الإندماج في الجالية السورية النشطة هناك وأن يصبح من نشطاء فرع حزب البعث السوري في آمريكا اللأتينية ، ومن الأرجنتين انتقل الى سوريا حاملا معه رصيدا ماليا مهما من المال أتاح له كسب الأصدقاء والارتقاء في المجتمع السوري ، وفي دمشق امتهن التجارة كمصدر لمنتجات الصناعة التقليدية التي كان يستعملها لبعث ما يهيئه من أفلام تجسسية .

 وعندما اعتقل في دمشق سنة 1965 كانت العلاقات بين النظامين المصري والسوري متوترة ، وأثيرت قضية الجاسوس كوهين وتخلل ذلك سجال التخوين ، أذ كانت السلطات السورية قد نفت أن يكون كامل ثابت هو إيلي كوهن عند تعرف عليك احد أعضاء المخابرات المصرية من خلال الصور التي ألتقطت له عندما كان ضمن الوفد المرافق للواء فوزي قائد القوات العربية المشتركة ، وظل السوريون يعتبرونه من شخصياتهم البارزة إلى أن اكتشفوا حقيقته .

 كان هذا العنصر الذي برز كخلاف بين السوريين والمصريين هوالذي حال ربما دون نجاح المساعي الذي بذلتها إسرائيل من أجل عدم تنفيذ حكم الإعدام الصادر ضد جاسوسها .

وفي مقال له بجريدة لوموند حكى الصحفي الفرنسي الراحل جان لاكوتير الذي كان صديقا لعدد من الرؤساء العرب الكثيرين عن وساطته التي لم تنجح وعن الدور الذي قام به إيلي كوهين لصالح المخابرات الأسرائيلية ٠.

عندما أعدم إيلي كوهين في دمشق وهو في الواحدة والأربعين من عمره أقيمت له في أسرائيل جنازة وطنية وسجل ضمن قائمة أبطالها ، ولقد ظل الإسرائيليون يسعون لنقل جثمانه إلى إسرائيل ولم يتمكنوا من ذلك إلا في سنة 2007 وبوساطة تركية .

لم يكن إيلي كوهين الجاسوس الأول ولا الأخير لإسرائيل لتنفيذ مخططاتها ولمحاربة من تعتبرهم أعداءها سواء من العرب أو غيرهم ، وكما استمرت في تجنيد العملاء والمخبرين في مواجهاتها مع خصومها وأعدائها ، بل وحتى حلفائها كما فعلت مع الولايات المتحدة الأمريكية وافتتضحت ، واصلت تقدمها في مجال التجسس وأبتكار أدواته .

 فمن ذلك الجهاز الذي زرعته في الجولان في الستينات والذي تم الحديث عنه بعد حرب حزيران 1967  ، إلى جهاز بيكاسيس واللوجيسيال الذي يشتغل عليه والذي أصبح مشاعا ولمن يدفع أكثر ، حققت إسرائيل مكاسب علمية ومعرفية في مجالات البحث والتقنيات رالتكنولوجيات ما لا يمكن تصور أهميته وما تتباها به في مختلف المحافل وما تجني منه مكاسب مادية ومعنوية لا يمكن تقدير أهميتها.

وأمام كل ذلك يحز في النفس ويؤلم أي غيور على أمته الجهربأن العرب ما يزالون مشغولين بصراعات النفوذ والهيمنة ، والمنطقة المغاربية أبرز مثال على ذلك حيث ينتصب حكام الجزائر للجهر بكل ما يكنون من عداء للمغرب لأنه استرجع ما كان تحت الإستعمار الاسباني بعد أن كانوا قد خططوا لضمه إلى منطقة نفوذهم يوم كانت الجزائر في أوج نفوذها الإقليمي والدولي غير مبالين بما ينتج عن ذلك من أضرار كانوا أول من يعانون منها ٠ إن العبرة بما تستطيع الدول تحقيقه من أجل السلم والتعايش والطمأنينة ، لا بما تثيره من صراعات ونزاعات تستنفذ إمكانياتها وقدراتها .

الدار البيضاء 28 يوليوز 2021

عبد السلام البوسرغيني

التعليقات مغلقة.