عزالدين سعيد الأصبحى: نقل الرئيس الأمريكى دونالد ترمب أحداث المفاوضات السياسية،من خلف كواليس السياسة، إلى أمام كاميرا الإعلام، لتكون اللقاءات الدبلوماسية المغلقة جزءا من تليفزيون الواقع. مارس الرئيس مهنته كمقدم برامج صادمة، وكان الضيف/ الضحية هو رئيس أوكرانيا، البلد المثخنة بالجراح والضحايا . وطوال الأسبوع الماضى وتلك المنازلة التليفزيونية حديث الشارع والإعلام. ومحل همس اللقاءات الدبلوماسية المغلقة.
وهل جاءت النتيجة عكس ما توقع صاحبها حسب رأى المحللين!.؟ لكن صحيفة نيويورك تايمز، رأت أن اجتماع المكتب البيضاوى ذاك، يعكس تصميم ترامب على تفكيك مصادر القوة التقليدية للولايات المتحدة، والمتمثلة فى تحالفاتها مع الديمقراطيات المتشابهة فى الفكر.
هذه رؤية تستحق التوقف.الأمر ليس مجرد تصرف غير مدروس. بل هو انعكاس لتوجه عميق داخل الولايات المتحدة الأمريكية، سيقود العالم إلى تغير جاد. وأكد ذلك خطاب ترامب أمام الكونجرس والذى وصل إلى رقم قياسى تجاوز الساعة والأربعين دقيقة! (يبدو عدنا لمرحلة الخطابات الطويلة التى كنا نسيناها، مع انقضاء الحرب الباردة وصراع الأيديولوجيات).
ترامب عاد إلى الرئاسة أكثر قدرة من فترته السابقة، مسلحا بفريق متكامل من المخلصين المندفعين. والأهم مسلحا برؤية ستكون هى “الترامبية” الجديدة. إن ما يجرى هو تحول عميق لأمريكا ودورها فى صنع النظام العالمى الجديد .وليس مجرد تصرف عابر. بل وراء الأمر رؤية وتوجه تتنامى قوته كل يوم. يصنع مشهدا امريكيا جديدا، لن يخلو من القسوة، والتلويح بالقوة إلى درجة ابتزاز أصحاب النفوذ، وهو توجه أقرب لانقلاب كامل منه لمجرد جولة انتخابية معتادة.
ما يجرى هو تكريس منهج جديد صارم، يزيح الخصوم بقسوة ، ويصنع حلفاء مخلصين جددا، فى مختلف مؤسسات الدولة . وضمن ذلك يأتى التوجه فى صنع التحالفات الإقليمية والدولية. ولهذا ستتلاحق مشاهد التغيير لتشمل مسار التعاون الدولي.
انه مشهد أقرب لتحولات العالم فى الأربعينيات. عقب الحرب العالمية الثانية، الذى صنع انقساما عالميا معروفا وخلف النظام العالمى الذى نعيشه منذ ذلك الوقت. وما كان يسمى محور العالم الغربي- الرأسمالى، فى مواجهة الكتلة السوفيتية، والمعسكر الشرقى.
وبعد الحرب العالمية الثانية، صار الآن محورا جديدا. ولم يعد الغرب هو الغرب ولا الشرق هو الشرق. واليمين الصاعد سيوّحد قواه بناء على مصالح آنية سريعة، من واشنطن إلى موسكو وحتى الصين نفسها. وبمنطق التقاسم الفج لمصالح وثروات العالم. وكل من سيجلس أمام سيد البيت الأبيض على الطاولة يفاوض، عليه ان يضع أوراقا، تفيد بتقاسم مصالح، لا مجرد افكار ملزمة اخلاقيا.
ترامب القادم من سوق العقارات يفهم منطق الصفقات لا الالتزام الأيديولوجى، وتحكم تصرفاته سلوكيات منظمى عروض المصارعة، ومقدمى برامج تليفزيون الواقع، أى قاعدة كسر القواعد. ويريد أن يؤكد أنه الرئيس الأكثر نفوذا وقوة، حتى من رونالد ريجان الذى ينظر إليه بانه بطل النصر فى الحرب الباردة، ولكن ريجان القادم من استوديوهات هوليوود يومها، بقى رغم عوامل النفوذ، محكوما بقواعد الممثل الملتزم بنص وتوجيهات المخرج. أما ترامب فهو يأتى بعقلية التاجر المفتون بجنون عروض المصارعة، وكسر قواعد السلوك الدبلوماسي.
لذا جمع حوله فريقا من المؤمنين بهذا النهج الذى يسعى ليكون هو نهج أمريكا فى العقود القادمة. ستكون أمريكا أمام تحول جاد “للترامبية”، وهو تيار جديد، يرى باختصار إن التدخلات من أجل الاستقرار العالمى، وحماية الديمقراطية، هو عبث، والسير بحماية حلف من الأصدقاء الضعفاء هو عبء لابد من التخلص منه.
لذا كان لقاء ترامب ونائبه مع الرئيس الاوكرانى قاسيا، ولم يقصد شخص زيلينسكى، الذى بقى بملابسه غير الرسمية غير مقنع دوما، وكأنه ذاهب لمعسكر تدريب كشافة لا لحوارات دبلوماسية مهمة، لم يكن هو المقصود بالتنمر لوحده، بل القصد كان طابورا من قادة العالم خاصة أوروبا. حيث يقول لهم سيد البيت الأبيض، ان تحالفا جديدا سينشأ، وقواعد جديدة تُسن.
وأمام منطق القوة وأسلوب العنف بلع رئيس أوكرانيا الإهانة، وعاد معتذرا، قائلا عن ترامب انه، (حتى خطاياه ما عادت خطاياه)، وإن (من بـدأ المأساة ينهيهـــا)، على رأى نزار قباني. وسنكون أمام تحول عالمى، يتجاوز مجرد معادن أوكرانيا، أو شواطئ وغاز غزة، أو ثروات كندا .
نعم “الترامبية”، توجه إذا استمر فى التقدم (وهو يبدو كذلك) فيعنى مقدمة لتغيير عالمى لا نعرف مستقره ، وقد يكون ترامب أبرز صانع تحول دولى قادم، أو هو (كما قلتُ سابقا) سيكون “جورباتشوف” آخر، يقفز بالولايات المتحدة الأمريكية إلى فراغ عجيب. كل ذلك ممكن، والأهم ان كل ذلك يجعل السؤال الأهم يطرح نفسه: أين نحن كمنطقة من هذا التيار الجارف؟، هل سنكون فى مجرى التيار مكشوفين. ام نستطيع أن نصنع تحولا لمجرى السيل؟، بحيث نعود رقما فى عالم لا تحكمه غير الأرقام !.
عن: “الأهرام”