في الحاجة الى نموذج اعلامي جديد – حدث كم

في الحاجة الى نموذج اعلامي جديد

د. جمال المحافظ: على غرار الدعوة  الى نموذج تنموي جديد، يتطلب الأمر أيضا البحث عن نموذج اعلامي جديد يؤطر مختلف وسائل الاعلام والاتصال من اعلام عمومي وخاص، حتى يكون بمقدوره التجاوب مع التحولات العميقة والمتسارعة التي يعرفها مجتمع الاعلام والمعرفة، وحاجيات الرأي العام في الحصول على المعلومات التي أصبحت في المتناول بمجرد نقرة على الهواتف النقالة والحواسب المختلفة، خاصة في ظل الثورة الرقمية التي غزت كل الفضاءات والقطاعات وتأثيراتها على كافة مناحي الحياة .

وإذا كانت كافة  الأطراف وعلى مختلف مستويات المسؤولية، تقر بأن نموذج التنمية  الحالي قد استنفذ أغراضه، مما يتطلب البحث عن نموذج تنموي جديد يضع من أولياته الرئيسية العنصر البشري، وانخراط الجميع من أي موقع كان للمساهمة في تحقيق ذلك، فان هذا الأمر يقتضى استراتيجية اعلامية مهنية، وتوفير بيئة تضمن الحرية التعبير وضمان الحق في الحصول على المعلومات والتعددية وتجنب أساليب التعتم والتضليل والدعاية  وترويج الاخبار الزائفة.     

لكن يجذر التساؤل عن أي نموذج اعلامي جديد هذا الذى نتحدث عنه في ظل النموذج التنموي المنشود ؟ يمكن القول أن هناك قواسم يشترك فيها النموذجان التنموي والاعلامي، من بينها على الخصوص، ان كلا النموذجين الحالين، يعانيان من صعوبات تجعلهما غير قادرين على الاستجابة لمطالب وحاجيات المواطنين والرأي العام، وهو ما يستدعى من النموذجين معا التركيز مستقبلا، على تنمية الإنسان، وتلبية حاجياته المتنوعة واعتماد مقاربات حقيقية للإصلاح والحكامة الجيدة وتغيير العقليات وضمان الاستدامة وتحقيق العدالة المجالية وفتح المجال للأجيال الصاعدة، وذلك عبر ترسيخ ثقافة جديدة تحفز المبادرة وتنمى روح الابتكار، مع العمل على تفعيل ربط المسؤولية بالمحاسبة، وفتح نقاش عمومي واسع كترجمة للمقتضيات التي ينص عليها دستور 2011.

ان هذا الأمر يقتضى وبإلحاح، الانتباه الى الأهمية  البالغة التي أضحت تكتسيها الصحافة والاعلام ووسائط الاتصال خلال العقدين الأخيرين، بفضل التحولات التكنولوجية في مجالي الاعلام  والاتصال، التي جعلت كثفت من لجوء كافة الاطراف من حاكمين ومحكومين لهذه الوسائط، بفعل التأثير الذي تمارسه على تشكيل الرأي العام، وتوجيهه إما سلبا أو ايجابا، خاصة في ظل المكانة  التي يحتلها الإعلام والاتصال في الوقت الراهن والثقة  التي أضحت له لدى الجمهور، وتجاوز تأثيره في كثير من الأحيان ما تمارسه السلطات التقليدية التشريعية والتنفيذية والقضائية.

وهذا ما جعل قطاع الاعلام والاتصال ينتقل من سلطة رابعة – كما تذهب اليه غالبية الدراسات- وما تتضمنه المقررات الدراسية بالمؤسسات الجامعية والمعاهد، إلى سلطة أولى – حسب العديد من الخبراء والمختصين-  وإن كان بوظائف ورهانات جديدة، جعلت الفضاء العمومي- كما يقول الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني يورغن هابرماس- يتحول إلى فضاء إعلامي بامتياز، وذلك بفضل التطور والتوسع الهائل للتكنولوجيات الحديثة ومنها الثورة الرقمية، مما جعل وسائط ل الاتصال، تتحول بتأثيراتها الى موجه  لطريقة  تمثلنا الافراد لمختلف مجريات الاحداث العالمية، وبالتالي جعل علاقاتنا بالعالم، لا تتم وفق تجربتنا المباشرة، بل تتم وفق المعايير والرؤية  التي يقدمها لهم الإعلام جاهزة.

 وهذا  ما يتطلب من كافة الفاعلين، الأخذ بعين الاعتبار التغيرات المجتمعية  ودور الاعلام والاتصال في ذلك، إذ أصبح في زمننا المعاصر، أن من يتحكم في الآلية الاعلامية وتوظيفها بحرفية، يتمكن من تحقيق النصر في معاركه التي يخوضها سواء في مجال التنمية أو تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمجالية. الا أن تحقيق ذلك يقتضي القيام بقطيعة ابستيمولوجية، بين المعرفة العامة والمعرفة العلمية – وفق مفهوم غاستون باشلار – مع كل الممارسات التي تهدر الزمن وأيضا الفرص التنموية بأشكالها المتعددة، وتعيق في نفس الوقت مبادرات الإصلاح، وتكبل بالتالي روح الإبداع والابتكار.

ومن نافلة القول أن ورش الجهوية المتقدمة، يشكل ضمن هذا النموذج التنموي الجديد، إطارا لمواجهة تحديات التنمية الاقتصادية ارتباطا بالرهانات الاجتماعية والثقافية والاعلامية والبيئية، باعتبار هذه الجهوية، تندرج ضمن إصلاح عميق للدولة، يقوم على توزيع جديد للسلطة خاصة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين السلطة المركزية والوحدات الترابية الناشئة.  

كما تعد – حسب بعض الخبراء-  تمرينا أيضا من أجل الانتقال من مقاربة مبنية على الهاجس الأمني، إلى مقاربة تعتمد الفعل التنموي والحكامة المجالية، كمدخل لتحقيق التوازنات على المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والبيئية. فالجهوية المتقدمة تعتبر أيضا نظاما لتدبير الشأن المحلي، واطارا لتفعيل ما يصطلح على تسميته بديمقراطية القرب، والانتقال من علاقات الوصاية والرقابة الي علاقات مبنية على التشاور والتدبير التشاركي والتعاون والتعاقد، دون الاخلال بالاختصاصات المنوطة بالدولة المنصوص عليها في الدستور.

 وانطلاقا من هذه الادوار الجديدة للجهات، فإن هذا الورش الجديد في حاجة إلى مواكبة إعلامية، تمكن من إبراز مختلف خصوصيات الجهات وقضاياها، تكريسا لإعلام القرب الذى تشكل الصحافة والاعلام الجهوي أحد عناصره الرئيسة. فالمواكبة الاعلامية لورش الجهوية المتقدمة، يتطلب عدة شروط في مقدمتها القطع بشكل نهائي مع أساليب الهواية والدعاية، والتسلح بقواعد الاحتراف والمهنية، صحافة مهيكلة داخل مقاولات فعالة، ذات مصداقية، ملتزمة بأخلاقيات المهنة، ومستوعبة للتحولات التي فرضتها الثورة الرقمية والمتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

 إلا أنه مهما كان حجم هذه التغيرات التي طالت الإعلام، بفضل دينامية التكنولوجيا الحديثة، ، فإن وظيفة الصحافة والاعلام الرئيسية، ظلت وما زالت، تتمثل في الإخبار، والبحث عن الحقيقة، والكشف عن الاختلالات والفضح والوقوف في وجه التجاوزات. وهذا ما يفرض توفر الجهات على وسائل اعلام، ملتزمة بالمهنية والاحترافية والموضوعية والاستقلالية، اعلام منضبط لقواعد اخلاقيات المهنة.

كما يتعين على المسؤولين  بالجهات الاثني عشر، توفير المعلومات، باعتبارها حقا عموميا، وضرورة مهنية في نفس الوقت، تمكن ساكنة الجهات من الاطلاع، على ما يروج بالجهة التي ينتمون لها، في ظل نمط جديد سيغير من شكل حياتهم اليومية، ومن محيطهم المؤسساتي والبشري، وهو أمر من شأنه أن يساهم في تشكل رأي عام جهوي واعي ويقظ، يكون دعامة لتطور الجهوية المتقدمة. وبدون تحقيق ” الانتقال الاعلامي” مركزيا وجهويا لا يمكن الحديث عن أي اصلاح حقيقي وتحقيق انتقال ديمقراطي.

 

التعليقات مغلقة.